مصر 1952 ( قبل إندلاع ثورة 23 يوليو في مصر)
مايلي مقتبس بالنص من عدة صفحات من كتاب " ثورة يوليو: خمسون عاماً ..." من تأليف رئيس تحرير صحيفة الأهرام المصرية الأسبق " محمد حسنين هيكل"
ثــورة يوليـــو: خـمســــون عــــامــا "الساعة تدق منتصف الليل؟ "
للكاتب والصحفي الشهير "محمد حسنين هيكل"
=====================================================
الســؤال الأول: هــــــــــل كــانت الــثــورة لازمـــة؟
“1” رجــــل الساعة مستعد!
من الملاحظات اللافتة للنظر أن «على ماهر» (باشا) كُلف بتشكيل الوزارة مرتين فى ظرف ستة شهور من سنة 1952، وفى كل مرة منهما تم الاستغناء عنه بعد أسابيع ـ رغم اختلاف الظروف فى الحالتين.
ومن المفارقات أن الأسباب التى استدعت مجيئه ـ والأسباب التى أوجبت ذهابه، كانت متشابهة فى الحالتين، مع أن واحدة من المرتين (27 يناير 1952) ـ كانت أواخر زمن الملك «فاروق»، فى حين كانت المرة الثانية يوم سقوط ملكه (23 يوليو من نفس السنة).
*فى المرة الأولى كان الملك «فاروق» هو الذى كلف «على ماهر» (باشا) برئاسة الوزارة عقب حريق القاهرة وإقالة حكومة الوفد وإعلان حالة الطوارئ. وكان التكليف بناءً على تقدير الملك نفسه، ومعه معظم أقطاب ديوانه (حافظ عفيفى ـ حسن يوسف ـ عبد الفتاح عمرو) ـ وحسابهم أن «على ماهر» يملك مؤهلات التعـامل مع الطوارئ والمفاجآت، وملء الثغرات والفجوات، واستيعاب الهزات والصدمات!
*وفى المرة الثانية (23 يوليو 1952) فإن «على ماهر» لم يكن اختيارا مقصودا لذاته من ضباط يوليو، بل كان اسما طرحَ عليهم وقبلوا به، ورجح اختيارهم له شعورا (أكثر منه تفكيرا) ـ أنه كان فى الوعى الباطن طلبا لنفس المؤهلات التى كانت فى تقدير الملك وأقطاب ديوانه، ومؤداها أن «على ماهر» يملك كفاءة التعامل مع الطوارئ والمفاجآت، وملء الثغرات والفجوات، واستيعاب الهزات والصدمات.
وفى الحقيقة فإن تكرار المجيء بعلى ماهر (باشا) مرتين فى ظرفين مختلفين متناقضين ـ دليل قاطع على أن حركة التاريخ عملية معقدة، فيها دور البشر وفيها حكم الحقائق، وفيها من الملاءمات ـ وحتى المصادفات ـ ما هو نافع للسياق وأحكامه!
كان الملك «فاروق» ـ وكذلك رجال ديوانه ـ يعرفون بالتجربة والخبرة أن «على ماهر» رجل «مهام مؤقتة» وليس رجل «أوضاع لها مقدرة البقاء».
وهو يجيء مرات ـ إذا استدعى ـ لمواجهة حالات فراغ تنشأ على غير انتظار، ونتيجة لظهور أحوال طوارئ (مثل أجواء الحرب العالمية الثانية ومثل حريق القاهرة). والعادة أنه فى مثل تلك الأحوال يحجم آخرون ويتردد كثيرون ويتخوف العقلاء من مناطق المجهول فى ساحات الفراغ ـ إلا رجلا واحدا بينهم يتصور دواما أنه مهيأ لدور المنقذ المخلص، الجاهز بتشكيلة وزارية فى جيبه، محيطا نفسه برهط من الحواريين يتصورونه رجل الساعة ـ أى ساعة!
لكن المأزق فى حالة رجال مثل «على ماهر» بالذات ـ أنهم لا يقدرون على الاستمرار فى الدور طويلا، لأن أحوال الطوارئ لها أجل.
وهنا تتبدى إشكاليات وملابسات:
ـ فمهمة الإنقاذ ـ بالطبيعة موقوتة ـ لكن «على ماهر» شأنه شأن كل منقذ، يتصور مهمته مستمرة (ليست مهمة غرفة إنعاش وإنما مهمة رعاية كاملة!).
ـ والمنقذ (أو رجل مثل «على ماهر» بالذات) ليس لديه حضور دائم يزكيه، وإنما لديه أزمة تستدعيه على عجل ـ وهو إذن مهيأ لأن يتخطى آخرين أو يعقد معهم اتفاقات قصيرة الأجل ـ مُعَرَّضة للنقض عند أول منحنى على الطريق!
ـ والمنقذ (رجل الطوارئ) بالضرورة على خلاف مع طبيب العائلة المُقيم (سواء كان حزب الوفد الممثل للأغلبية الصحيحة لجماهير الشعب ـ أو مع رئيس الديوان وهو حلقة الاتصال مع القصر) ـ لأن رجل الإسعاف يهتم بالحالة كما يراها وبسرعة ـ دون مراجعة للتقارير القديمة ـ لأنها ليست متوافرة أمامه فى موقف الطوارئ ـ وليس لديه ترف انتظار وصولها إليه!
ـ ثم إن «المنقذ» فى النهاية ومهما كانت كفاءاته ـ هو فى العادة ـ نوع من «الفني»، أو «البيروقراطي» ـ نشيط ومتحفز إذا لجأ إليه أحد ـ لكن هاجسه المستمر رغبته فى تمديد مهمته، ولذلك فهو على استعداد للالتفاف حول الحقائق بظن قدرته على البقاء بذاته وصفاته سواء كانت أسباب استدعائه قائمة أو أنها انتهت لسبب أو آخر، وذلك مطلب عسير، والطريق إليه فى العادة شائك!
ـ وفى حالة «على ماهر» بالذات ـ فإن «المنقذ» كان بعيدا عن التيارات الشعبية واجوائها ومطالبها، وبالتالى فهو يبدو للناس غريبا عنهم، وعن مشاعرهم.
كانت دواعى القصر فى تكليف «على ماهر» (باشا) برئاسة الوزارة، غداة حريق القاهرة (26 يناير 1952) ـ إلى جانب ملاقاة الطوارئ والمفاجآت، وملء الثغرات والفجوات، واستيعاب الصدمات والهزات ـ مجموعة أهداف أخرى عملية ومحددة نشأت بعد الحريق:
1 ـ تهدئة الوضع الداخلى وضبط الأمن.
2 ـ والتحقيق فى أسباب العنف المدمر الذى دهم الجميع ـ وعقاب المسئولين عنه.
3 ـ وتثبيت الداخل المصرى بتعزيز سيطرة الدولة، بما يظهر أن هناك أملا تحت الأنقاض والرماد.
4 ـ وإقناع العالم الخارجى ـ بمجرد التماسك الداخلى ـ أن الاقتصاد المصرى مازال استثمارا معقولا، ويمكن أن يظل مجزيا.
5 ـ وطمأنة القوى الكبرى وأولها ـ بريطانيــا والولايات المتحدة الأمريكية ـ إلى أن الوضع فى مصر أمكن ضبطه دون تدخل بريطانى عسـكرى إمبراطورى ـ أو بقرار تتوافق عليـه الدول المهتمـة بالدفاع عن الشرق الأوسط (كما بدأ يُقال أيامها ـ إشارة إلى سياسة الولايات المتحدة الأمريكية!).
وحقيقة الأمر وراء كل الظواهر ـ أن بلوغ هذه الأهداف جزئيا أو كليا، كان معلقا إلى درجة كبيرة على إمكانية الاحتفاظ بتماسك الجيش المصرى واستمرار طاعته للأوامر الصادرة من قائده الأعلى فى قصر عابدين.
وكانت تلك حقيقة تجلت بوضوح منذ تمكنت قوات الجيش من تأمين العاصمة واستردادها من براثن الفوضى، على أنه كان لابد من فترة اختبار تؤكد أن ما «تجلي» فى لحظة أزمة قادر على أن «يستمر» بعدها!
وخلال فترة الاختبار تكشف حجم من المتغيرات لم يقع فرزه بالتوصيف والتحليل.
*أولى المتغيرات ـ أن كافة القوى السياسية المُعترف بها شرعيا أو رسميا فقدت ما كان لها من فاعلية، والدليل أن الملك أقال حكومة الوفد وسط إجماع شبه عام، على أن تلك الوزارة فشلت فى أدائها، وانهمك وزراؤها فى حروبهم الأهلية، وتسابقوا ـ فيما عدا قلة بينهم ـ إلى مستوى من فساد الذمم غير مسبوق، ثم إنها فى المجال الوطنى خلطت بين اعتبارات البقاء فى الحكم واعتبارات الإخلاص للمبدأ، وذلك أوصلها فى النهاية إلى «مأساة الإسماعيلية» و«كارثة حريق العاصمة»، ثم إن بقايا تلك الحكومة أصيبت بهلع تجلى فى سابقة ليس لها مثيل، وهى أن مجلس النواب الوفدى منح ثقته لوزارة «على ماهر» (باشا)، ووافق لها على استمرار العمل بقانون الطوارئ لمدة ثلاثة شهور قابلة للتجديد، وجرى ذلك بعد طرد وزارة تمثل الأغلبية، وزاد أن «النحاس» (باشا) اتصل بعد الإقالة برئيس الوزراء المُعَيَّن يهنئه ويؤيده، وكذلك فعل «فؤاد سراج الدين» (باشا).
وكان حال أحزاب الأقلية (وهى حزب السعديين ـ والأحرار الدستوريين ـ والحزب الوطنى ـ والكتلة) أشد ترديا إلى درجة أن أحدا لم يخطر على باله أن تلك الأحزاب «صالحة» لأداء دور رئيسى أو مساعد!
*ترافق ذلك مع حقيقة أن كل القوى السياسية غير المُعترف لها بالشرعية مثل الشيوعيين والإخوان المسلمين ومصر الفتاة أو الحزب الاشتراكى وغيرها ـ لم تمثل وقتها منفردة أو مجتمعة بديلا أو شبه بديل يمكن تجربته، فهذه القوى لم تكن لديها رؤى أو برامج تصلح أساسا لسياسات، وما كان لديها لا يزيد على شعارات عامة محرضة على الغضب، عاجزة بعده ـ أى أنها كافية لسيناريو الفوضى وليست مؤهلة لسيناريو الإنقاذ.
وفى تلك اللحظة وأثناء اختبار الحقائق، فإن هذه القوى كانت مهمومة بتبرئة نفسها من مسئولية حرائق النار الممتدة من الإسماعيلية إلى القاهرة، كلها تجاهد للهرب من المساءلة، سواء كانت سياسية أو جنائية، ومن الغريب أن كل طرف راح يزيح الشكوك ناحية الآخرين.
*والحقيقة الثالثة ـ وذلك ما توصلت إليه الدول الأجنبية ـ أنه إذا كانت القوى السياسية المُعترف بشرعيتها فى حالة إفلاس، (وصل إلى حد حريق أتى على كل شيء من المخازن إلى الدفاتر!!) ـ وأنه إذا كانت القوى السياسية غير المعترف بشرعيتها غير قادرة إلا على التحريض ثم الهرب من نتائجه ـ إذن فإن سيناريو الفوضى هو أرجح الاحتمالات ما لم ينجح الملك فى ضمان جيشه ـ إخلاصًا وكفاءةً!
ومن المفارقات أنه فى فترة الانتظار ـ أياما معدودة أو أسابيع ـ لاختبار درجة «الثبات»، والاستقرار فى الشأن المصرى، راحت الحكومة البريطانية تفكر فى كافة الاحتمالات:
* دأت تطلب من كافة السلطات المصرية (القصر ـ والوزارة الجديدة ـ والسـلطات المحلية فى محافظات قناة السويس) ـ سرعة العمل على تخفيض درجة الحرارة. وكتب القنصل البريطانى فى بورسعيد تقريرا إلى السـفير البريطانى فى القـاهرة، أحاله إلى وزارة الخارجية فى لندن (125/ 86045) جاء فيه:
«قمت بزيارة محافظ بورسعيد، الذى أكد لى أن يده الآن طليقة فى التعاون معنا ومع قيادة القوات البريطانية فى شئون الأمن، لكنه أشار لى تلميحـا إلى أنه فى انتظار أوامر مكتوبة من القاهرة، لأن الحكومة لاتزال فى موقف صعب، فهى تريد التهدئة، لكنها لا تريد أن تظهر بمظهر المتعاون معنا علنا دون تحفظات!».
*وكتب الجنرال «روبرتسون» القائد العام البريطانى فى الشرق الأوسط إلى نائب رئيس أركان حرب الإمبراطورية تقريرا فى أعقاب زيارة استطلاع قام بها إلى قيادة القوات البريطانية فى مصر (ومقرها فايد وسط منطقة قناة السويس) ـ يقول: «إننى أوصى بعدم التفكير فى الخطة «روديو»، لأنها إذا وُضِعَتْ للتنفيذ سوف تُواجَه بمقاومة أشد عنفا مما رتبنا عليه تقديراتنا لأن الجيش المصرى سوف يشترك مع «الغوغاء» فى مقاومتنا. ثم إن أحوال الفوضى التى سنواجهها سوف تحتاج إلى قوات أكبر مما خصصنا لحفظ الأمن، وإذا نجحنا فى تحقيق الهدف فسوف نكتشف أن أهم ما نجحنا فيه، أننا كسرنا القوة الوحيدة التى يمكن لها أن تحفظ الأمن الداخلى فى مصر (أى الجيش المصري) ـ ونحن لا نريد يقينا أن نتحمل عبء هذه المسئولية!».
*تجاوز رئيس الجالية البريطانية فى بورسعيد الحدود ليكتب إلى القنصل العام البريطانى فى المدينة خطابا، يجرى تحويله إلى السفير فى القاهرة، الذى يقوم بدوره بتحويله إلى وزارة الخارجية فى لندن (6868)، والاقتراح هو «وضع منطقة قناة السويس تحت إدارة دولية مستقلة لاعتبارات عَرَضَها (رئيس الجالية البريطانية فى بورسعيد) بينها أن المنطقة ليست مهمة لمصر، وإنما أهميتها بريطانية (عسكرية) ودولية (قناة السويس)، وأن العناصر الأبرز والأنشط فى مدنها الرئيسية من الأجانب: فرنسيين ـ إيطاليين ـ يونانيين. ثم إن السكان الوطنيين يعتمدون فى حياتهم ومعيشتهم على «القاعدة وعلى الثكنات وعلى المصالح التجارية الأجنبية». ويختم (رئيس الجالية البريطانية فى بورسعيد) بعد أربع صفحات مستفيضة فى شرح اقتراحه ـ بالإشارة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية يمكن أن تتحمس لفكرة تدويل المنطقة، لأن ذلك ينهى مقدرة مصر على الاستمرار فى الصراع العربى مع إسرائيل».
كانت لندن مشغولة بالشأن المصرى سابقه ولاحقه:
*بالنسبة للسابق فإن رئيس الوزراء البريطانى المحافظ الذى عاد إلى الحكم (أواخر 1951) ـ وهو الزعيم الأسطورى «ونستون تشرشل» ـ كان لايزال مصمما حسب قولـه فى مذكراته على أن الأمة البريطانية لم تحارب «هتلر» لكى تُضَيِّع ممتلكاتها، وأنه لا يقبل على تاريخه أن يكون رئيس الوزراء الذى يقوم على عملية تصفية الإمبراطورية. وفى نظر «تشرشل» فإن سياسة سلفه «كليمنت آتلي» (من حزب العمال) أدت سنة 1948 إلى استقلال الهند وإلى تقسيمها، ومع أنه أمكن استبقاء شبه القارة الهندية (الهند وباكستان) فى إطار الكومنولث ـ إلا أن ضياع مصر وفيها قاعدة قناة السويس سوف يحكم بضياع الهند، حتى وإن بقيت فى الكومنولث.
*وكان رئيس الوزراء «تشرشل»، ونائبه على رئاسة الوزارة هذه المرة السير «أنتونى إيدن» ـ يعتبر نفسه خبيرا بالشأن المصرى، فهو الذى فاوض ووقع معاهدة سنة 1936 مع «النحاس» (باشا)، ولن يقبل إلغاءها من طرف واحد وهو متفق مع «تشرشل» تماما أن مصر هى حلقة الوصل فى النظام الإمبراطورى من البحر الأبيض ـ إلى البحر الأحمر ـ إلى المحيط الهندى. وعلاوة على ذلك فإن «إيدن» يظن أنه يعرف كل رؤساء وزارات مصر وقد تعامل معهم ابتداءً من «مصطفى النحاس» (باشا) ـ زعيم الأغلبية الذى أُقيل ـ إلى «على ماهر» (باشا) الذى عاد لرئاسة الوزارة فى مهمة مؤقتة.
*وكان أشد ما يثير قلق «تشرشل» و«إيدن» معا، هو ما وقع ليلة حريق القاهرة، من ظروف أدخلت الولايات المتحدة الأمريكية إلى قلب الشأن المصرى، وكان واضحا للاثنين أن الولايات المتحدة دخلت بسهولة، لكنها لن تخرج إلا بصعوبة، هذا إذا خرجت على الإطلاق. ومع أن «تشرشل» لا يريد للولايات المتحدة أن تخرج تماما من مصر لأن ذلك يعنى خروجها من الشرق الأوسط كله ـ إلا أنه على استعداد لقبولها داعمة «لاستقرار المنطقة»، خصوصا إزاء تعقيدات الصراع العربى الإسرائيلى ـ بشرط ألا يكون من شأن ذلك إعطاء الولايات المتحدة تفويضا مفتوحا فى الشأن المصرى!