نائبة السلطنة ماه بيكر كوسيمبقلم الكاتب طلال الجويعد
=================
برزت في العصر العثماني شخصيات نسائية مؤثرة جدا في إدارة سياسة الدولة وعلى رأسها شخصية «خرم سلطان» «روكسلانه» «ت1558م» تلك الجارية الأوكرانية التي لعبت دورا قاسيا في سبيل الوصول إلى التدخل في شؤون الحكم والاستحواذ على قلب السلطان سليمان القانوني ومن ثم العمل على إيصال ابنها سليم للحكم وإن تطلب ذلك سفك الدماء، فكان من ضحايا مؤامراتها الأمير مصطفى أكبر أولاد السلطان وولي عهده ثم الوزير القدير مقبول إبراهيم باشا صهر السلطان وصديقه ليحل محله رستم باشا الكرواتي زوج ابنتها.
وبعد وفاة «خرم سلطان» بنصف قرن تخرج لنا شخصية نسائية لا تقل خطورة وتأثيرا عن شخصية «خرم سلطان» وهي «ماه بيكر كوسيم خانم» والدة سلطان كما عرفت في المصادر العثمانية، والتي كان تأثيرها أشد وأكثر ضررا على الدولة من سابقتها «خرم سلطان» حيث إنها كانت تحتل منصب والدة سلطان الذي يعتبر حسب البروتوكول العثماني المنصب الذي يلي السلطان مباشرة.
ولدت «كوسيم» خانم في إحدى القرى البلقانية بحدود العام 1590م وتنتمي لأسرة يونانية ولأب كان يعمل قسيسا، ولا يُعرف شيء عن حياتها ولا عن اسمها قبل وقوعها وهي صغيرة سبية في قبضة الجنود العثمانيين ومن ثم أرسلها والي البوسنة هدية من ضمن الهدايا المرسلة للسلطان العثماني الجديد أحمد الأول «1603-1617» وهي لاتزال في الثالثة عشرة من عمرها، حيث ألحقت من ضمن جواري السيدة الوالدة «خندان» والدة السلطان أحمد الأول، وفي قصر طوب قابي اعتنقت «كوسم» كغيرها من الجواري الإسلام
ثم تلقت دروسا في الدين واللغة والإتيكيت.
وفي العام 1605م
توفيت والدة السلطان أحمد «خندان»، فانتقلت ملكية «كوسيم» إلى السلطان نفسه والذي أعجب بها واتخذها زوجة ثانية له بالإضافة إلى زوجته الأولى السيدة ماه فيروز وأم ولي عهده عثمان فأنجبت له «كوسيم» كلا من مراد وقاسم وإبراهيم بالإضافة إلى عائشة وفاطمة، ونتيجة للبروتوكولات العثمانية لم يكن لـ «كوسيم» أية سلطة في عهد زوجها حيث كانت التقاليد تحصر السلطة في الحريم بيد الزوجة الأولى.
وفي العام 1618م
تولى ابن زوجها عثمان الثاني مقاليد الحكم فأصدرت والدته «ماه فيروز» أمرا بإبعاد «كوسيم» وحاشيتها إلى القصر القديم الواقع في حي بايزيد «تشغله الآن جامعة استانبول» حيث مكثت فيه كوسيم ثلاثة أعوام لحين وفاة ضرتها «ماه فيروز» العام 1621م،
وبعد وفاتها عملت «كوسيم هانم» على العودة إلى قصر طوب قابي ونجحت في ذلك بعد حين إلا أن تدخلها في شؤون الحكم لم يبدأ إلا بعد تولي ابنها الأكبر مراد الرابع السلطة العام 1623م وهو لم يتجاوز الحادية عشرة فاتخذت لقب نائبة السلطان وكان بيدها الختم السلطاني الأمر الذي شجع رجال الدولة من وزراء وقادة إلى التقرب منها وكسب تأييدها بالهدايا والتزلف للحصول على المناصب المهمة في الدولة الأمر الذي أدى إلى وصول العديد من الرجال غير ذوي الكفاءة إلى المناصب العالية وانتشار الرشوة والفساد مما أثر سلبا على قوة الدولة وأمنها فسادت الفوضى في الأقاليم وتمرد الولاة وانهزمت الجيوش العثمانية في العراق واستولى الصفويون على بغداد وجنوب العراق، ولولا انشغال أوروبا بحرب الثلاثين عاما «1618-1648م» لكانت النتائج وخيمة.
استمرت نيابة «كوسيم» قرابة تسعة أعوام حتى بلغ ابنها مراد الرابع سن العشرين فأمسك بزمام الأمور وأبعد أمه عن شؤون السياسة حيث عادت إلى قسم الحريم في قصر طوب قابي ولم تقدر على التأثير على ابنها السلطان مراد الذي عرف بشدته وقسوته مع معارضيه وشكه الشديد بكل من حوله حتى حدا به الأمر إلى قتل أخوته الثلاثة سليمان وبايزيد وقاسم والمحجوزين في قصر طوب قابي خنقا العام 1638م قبل خروجه مع الجيش لاستعادة بغداد من الصفويين، ولم تجد توسلات «كوسيم» خانم نفعا في إنقاذ ابنها الثاني قاسم إلا أنها نجحت في إنقاذ ابنها الأصغر إبراهيم بعد أن أقنعت ابنها السلطان مراد الرابع بالإبقاء عليه حيا خوفا من انقراض سلالة آل عثمان حيث إن السلطان مراد الرابع لم يرزق بولد حي فأبقى على أخيه إبراهيم محجوزا في قصر طوب قابي.
وفي فبراير العام 1640م
توفي السلطان مراد الرابع وهو في سن 28 دون وريث متأثرا بمرض النقرس، فأسرعت «كوسيم» إلى ابنها السلطان إبراهيم «1640-1648» وأخرجته من حجزه بعد إلحاح شديد وأجلسته مقام أخيه المتوفى على سدة الحكم
كان السلطان ابراهيم شخصية طيبة مسالمة بخلاف شقيقه مراد الرابع كما كان مصابا بمرض الشقيقة نتيجة لما واجهه من خوف ورعب أثناء حجزه في قصر طوب قابي ولرؤيته أخوته الثلاثة يخنقون أمامه، وقد حاول السلطان إبراهيم السير على سياسة أخيه السلطان مراد إلا أن قلة خبرته ومرضه لم تساعده على ذلك إضافة إلى أن سيطرة والدته «كوسيم» وحاشيتها على أمور الحكم جعله ينصرف عن شؤون الحكم وترك الأمور بيد والدته التي صارت تعين وتعزل من تشاء وتقرب من يدفع أكثر فصار الوزراء يعينون ويعزلون في فترات قصيرة كما كان القائد أو الوزير يُعدم لأتفه الأسباب، وأصبحت خزينة الدولة في يد «كوسيم» وحاشيتها تتصرف بها كما تشاء، فتأخرت الرواتب وتذمر الجند والولاة، فكان من نتائج هذه السياسة الخرقاء أن فشلت الحملة المرسلة إلى جزيرة كريت نتيجة انقطاع الإمدادات والأموال عنها، وأعدم قائد الحملة نتيجة المؤامرات داخل القصر.
حاول السلطان إبراهيم إنقاذ الوضع فعين الوزير الكفء «هزار باره أحمد باشا» صدرا أعظم إلا أن هذا لم يعجب «كوسيم» وحاشيتها فألبوا الجند عليه ونسبوا إليه الفساد فثار عليه الجند وقتلوه، الأمر الذي دعا السلطان إبراهيم إلى محاولة الحد من سلطة والدته وتهديده لها بالنفي إلى جزيرة رودس إن لم تكف عن التدخل في شؤون الدولة.
انزعجت «كوسيم» وحاشيتها من الأغوات من محاولة السلطان استعادة سلطاته فدبروا مؤامرة لعزله بسبب نسبة الفساد إليه فثار جنود الانكشارية عليه وطالبوا بعزله وتنصيب ابنه الطفل محمد الرابع محله فتم لهم ذلك، واقتيد السلطان إبراهيم إلى مكان حجزه في قصر طوب قابي، وبعد عشرة أيام تمردت فصائل الفرسان من السباهية وطالبوا بعودة السلطان المخلوع وعدم رضاهم بسلطان طفل، فرأت «كوسيم» التي تجردت من أمومتها بأن تأمر بإعدام ابنها السلطان ابراهيم حتى تخمد هذه الثورة وأرسلت الجلادين حيث المكان الذي حجز فيه ابنها وتم خنقه بخيط حرير رغم توسلاته لهم وزهده في الحكم.
أصبحت مقاليد الأمور بعد مقتل السلطان إبراهيم في يد والدته «كوسيم» التي اتخذت لقب " نائبة السلطنة" وأطلقت العنان لحاشيتها من الأغوات في التدخل بشؤون الدولة وعزل وتعيين الولاة والوزراء، فانتشر التذمر في أقاليم الدولة وعمت الفوضى ونشب القتال بين أنصار «كوسيم» من قوات الانكشارية وخصومهم من السباهية،
وتوالى على منصب الوزارة عشرة صدور عظام خلال فترة وجيزة قتل معظمهم بعد عزلهم،
كما نشب صراع داخل القصر بين السيدة «كوسيم» وبين كنتها وزوجة ابنها «خديجة تورخان» أم السلطان محمد الرابع التي لم تعجبها سياسة حماتها التي دمرت الدولة،
فقررت «كوسيم» التخلص من كنتها وحفيدها السلطان الطفل وتعيين حفيدها الآخر سليمان مكانه، إلا أن مؤامرتها كشفت
وتمكنت «خديجة تورخان» بالتعاون مع الجلاد «اوزون سليمان آغا والجارية ملكي قلفه من خنق كوسيم وهي نائمة في سريرها ليلة 16 رمضان العام 1061هـ الموافق 3سبتمبر 1651م ، وأرسلت جثتها لتدفن بجانب زوجها السلطان أحمد الأول في ضريحه الملحق في جامعه الأزرق، لتنقضي صفحة «كوسيم» التي قيل عنها إنها لعبت أدوارا منحوسة في تاريخ الدولة العثمانية.
قال عنها المؤرخ التركي «يلماز اوزتونا»: كانت ذكية إلى درجة استثنائية ماكرة مراوغه أستاذة في صنع الخطط، مقنعة في كلامها تعي إرضاء الشعب.
ورغم ذلك فقد عرفت «ماه بيكر كوسيم» بأنها ذات خيرات كثيرة فكانت تؤدي ديون المعسرين وتنفق على زواج الكثير من الفتيات الفقيرات والجواري، بنت جامعا فخما في اسكودار مزينا بأفخر أنواع البورسلان والخزف وأوقفت عليه خانا «فندقا» عرف باسم خان الوالدة، إضافة إلى حمام عمومي ومدرسة للصبيان وسبيل ماء، وكانت كل عام ترسل صرة من المال لتوزع على فقراء الحرمين إضافة إلى أوقافها فيهما والتي يصرف من ريعها على الحرمين الشريفين.
________________