إن تكليف الله للنبي محمد بالدعوة للاسلام هو ليس لعشيرته فقط وليس للعرب فقط لكن تكليف أممي لكل دول العالم
ولذلك أرسل الله الملك جبريل بالوحي إلي النبي محمد ليبلغه إلي الناس كافة
ومن لم يقبل الإسلام ديناً وظل يقدس البشر أوالأوثان فلن يقبل الله منه وهو خالد في جهنم عندما يقرر الله إنهاء الحياة علي هذا الكوكب الصغير المسمي بكوكب الأرض ويبدأ يوم الحساب
ولذلك كان لزاماً علي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخاطب قادة أقوي دول العالم جيوشاً وسطوة يدعوهم إلي التوحيد وتنزيه الإله عما لايليق بجلاله
وبمقياس القوة العسكرية كانت أقوي دولتين في ذلك التوقيت من القرن 7م هما :
1-الدولة الرومية الشرقية
2 - الدولة الفارسية
التاريخ لم يغفل حفظ الوقائع التي بها نري كيف كان ملوك الدول يفعلون عندما تصلهم رسائل النبي محمد
مايلي مقتطف من الجزء الرابع من كتاب (البداية والنهاية) للمؤرخ ابن كثير
كتاب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الآفاق وكتبه إليهم
ذكر الواقدي أن ذلك في آخر سنة ست في ذي الحجة بعد عمرة الحديبية.
وذكر البيهقي هذا الفصل في هذا الموضع بعد غزوة مؤتة، والله أعلم.
ولا خلاف بينهم أن بدء ذلك كان قبل فتح مكة، وبعد الحديبية، لقول أبي سفيان لهرقل حين سأله هل يغدر؟
فقال: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها.
وفي لفظ البخاري: وذلك في المدة التي ماد فيها أبو سفيان رسول الله .
وقال محمد بن إسحاق: كان ذلك ما بين الحديبية ووفاته عليه السلام، ونحن نذكر ذلك ها هنا، وإن كان قول الواقدي محتملا، والله أعلم.
وقد روى مسلم، عن يوسف بن حماد المعني، عن عبد الأعلى، عن سعيد ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك أن رسول الله كتب قبل مؤتة إلى كسرى، وقيصر، وإلى النجاشي، وإلى كل جبار، يدعوهم إلى الله عز وجل، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه.
وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق: حدثني الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن عباس، حدثني أبو سفيان من فيه إلى في، قال: كنا قوما تجارا وكانت الحرب قد حصرتنا حتى نهكت أموالنا، فلما كانت الهدنة - هدنة الحديبية - بيننا وبين رسول الله لا نأمن إن وجدنا أمنا.
فخرجت تاجرا إلى الشام مع رهط من قريش، فوالله ما علمت بمكة امرأة ولا رجلا إلا وقد حملني بضاعة، وكان وجه متجرنا من الشام غزة من أرض فلسطين.
فخرجنا حتى قدمناها وذلك حين ظهر قيصر صاحب الروم على من كان في بلاده من الفرس، فأخرجهم منها، ورد عليه صليبه الأعظم وقد كان استلبوه إياه.
فلما أن بلغه ذلك وقد كان منزله بحمص من الشام، فخرج منها يمشي متشكرا إلى بيت المقدس ليصلي فيه، تبسط له البسط، ويطرح عليها الرياحين، حتى انتهى إلى إيلياء فصلى بها، فأصبح ذات غداة وهو مهموم يقلب طرفه إلى السماء، فقالت له بطارقته: أيها الملك لقد أصبحت مهموما؟
فقال: أجل.
فقالوا: وما ذاك؟
فقال: أُريت في هذه الليلة أن ملك الختان ظاهر.
فقالوا: والله ما نعلم أمة من الأمم تختتن إلا اليهود، وهم تحت يديك وفي سلطانك، فإن كان قد وقع ذلك في نفسك منهم، فابعث في مملكتك كلها، فلا يبقى يهودي إلا ضربت عنقه فتستريح من هذا الهم.
فإنهم في ذلك من رأيهم يديرونه بينهم، إذ أتاهم رسول صاحب بصرى برجل من العرب قد وقع إليهم، فقال: أيها الملك إن هذا الرجل من العرب من أهل الشاء والإبل يحدثك عن حدث كان ببلاده فاسأله عنه.
فلما انتهى إليه قال لترجمانه: سله ما هذا الخبر الذي كان في بلاده؟
فسأله فقال: هو رجل من العرب من قريش، خرج يزعم أنه نبي، وقد اتبعه أقوام وخالفه آخرون، وقد كانت بينهم ملاحم في مواطن، فخرجت من بلادي وهم على ذلك.
فلما أخبره الخبر قال: جردوه فإذا هو مختتن.
فقال: هذا والله الذي قد أريت، لا ما تقولون، أعطه ثوبه انطلق لشأنك.
ثم إنه دعا صاحب شرطته فقال له: قلب لي الشام ظهرا لبطن، حتى تأتي برجل من قوم هذا أسأله عن شأنه.
قال أبو سفيان: فوالله إني وأصحابي لبغزة، إذ هجم علينا فسألنا ممن أنتم؟ فأخبرناه فساقنا إليه جميعا، فلما انتهينا إليه قال أبو سفيان: فوالله ما رأيت من رجل قط أزعم أنه كان أدهى من ذلك الأغلف - يريد هرقل -.
قال: فلما انتهينا إليه قال: أيكم أمس به رحما؟
فقلت: أنا.
قال: ادنوه مني.
قال: فاجلسني بين يديه، ثم أمر أصحابي فأجلسهم خلفي، وقال: إن كذب فردوا عليه.
قال أبو سفيان: فلقد عرفت أني لو كذبت ما ردوا علي، ولكني كنت امرءا سيدا أتكرم وأستحي من الكذب، وعرفت أن أدنى ما يكون في ذلك أن يرووه عني، ثم يتحدثونه عني بمكة فلم أكذبه.
فقال: أخبرني عن هذا الرجل الذي خرج فيكم؟
فزهدت له شأنه، وصغرت له أمره، فوالله ما التفت إلى ذلك مني و قال أخبرني عما أسألك من أمره.
فقلت: سلني عما بدا لك؟
قال: كيف نسبه فيكم؟
فقلت: محضا من أوسطنا نسبا.
قال: فأخبرني هل كان من أهل بيته أحد يقول مثل قوله فهو يتشبه به؟
فقلت: لا.
قال: فأخبرني هل كان له ملك فأسلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردوه عليه؟
فقلت: لا.
قال: فأخبرني عن أتباعه من هم؟
فقلت: الأحداث، والضعفاء، والمساكين، فأما أشرافهم وذووا الأنساب منهم فلا.
قال: فأخبرني عمن صحبه؛ أيحبه ويكرمه، أم يقليه ويفارقه؟
قلت: ما صحبه رجل ففارقه.
قال: فأخبرني عن الحرب بينكم وبينه؟
فقلت: سجال يدال علينا، وندال عليه.
قال: فأخبرني هل يغدر، فلم أجد شيئا أغره به إلا هي؟
قلت: لا، ونحن منه في مدة، ولا نأمن غدره فيها، فوالله ما التفت إليها مني.
قال: فأعاد علي الحديث.
قال: زعمت أنه من أمحضكم نسبا، وكذلك يأخذ الله النبي لا يأخذه إلا من أوسط قومه.
وسألتك هل كان من أهل بيته أحد يقول مثل قوله فهو يتشبه به، فقلت لا.
وسألتك هل كان له ملك فأسلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ملكه، فقلت لا.
وسألتك عن أتباعه فزعمت أنهم الأحداث والمساكين والضعفاء، وكذلك أتباع الأنبياء في كل زمان.
وسألتك عمن يتبعه أيحبه ويكرمه، أم يقليه ويفارقه، فزعمت أنه قل من يصحبه فيفارقه، وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبا فتخرج منه.
وسألتك كيف الحرب بينكم وبينه فزعمت أنها سجال، يدال عليكم وتدالون عليه، وكذلك يكون حرب الأنبياء ولهم تكون العاقبة.
وسألتك هل يغدر، فزعمت أنه لا يغدر، فلئن كنت صدقتني ليغلبن على ما تحت قدمي هاتين، ولوددت أني عنده فأغسل عن قدميه.
ثم قال: الحق بشأنك.
قال: فقمت وأنا أضرب إحدى يدي على الأخرى، وأقول: يا عباد الله لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، وأصبح ملوك بني الأصفر يخافونه في سلطانهم.
قال ابن إسحاق: وحدثني الزهري قال: حدثني أسقف من النصارى قد أدرك ذلك الزمان قال: قدم دحية بن خليفة على هرقل بكتاب رسول الله فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى أما بعد: فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن أبيت فإن إثم الأكاريين عليك.
قال: فلما انتهى إليه كتابه، وقرأه، أخذه فجعله بين فخذه وخاصرته، ثم كتب إلى رجل من أهل رومية كان يقرأ من العبرانية ما يقرأ، يخبره عما جاء من رسول الله .
فكتب إليه: إنه النبي الذي ينتظر لا شك فيه فاتبعه.
فأمر بعظماء الروم فجمعوا له في دسكرة ملكه، ثم أمر بها فأشرحت عليهم، واطلع عليهم من علية له وهو منهم خائف، فقال: يا معشر الروم إنه قد جاءني كتاب أحمد، وإنه والله النبي الذي كنا ننتظر، ومجمل ذكره في كتابنا نعرفه بعلاماته وزمانه، فأسلموا واتبعوه، تسلم لكم دنياكم وآخرتكم.
فنخروا نخرة رجل واحد، وابتدروا أبواب الدسكرة، فوجدوها مغلقة دونهم فخافهم، وقال: ردوهم علي، فردوهم عليه فقال لهم: يا معشر الروم إني إنما قلت لكم هذه المقالة أختبركم بها، لأنظر كيف صلابتكم في دينكم؟ فلقد رأيت منكم ما سرني، فوقعوا له سجدا، ثم فتحت لهم أبواب الدسكرة فخرجوا.
وقد روى البخاري قصة أبي سفيان مع هرقل بزيادات أخر، أحببنا أن نوردها بسندها وحروفها من الصحيح ليعلم ما بين السياقين من التباين، وما فيهما من الفوائد.
قال البخاري قبل الإيمان من صحيحه: حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، ثنا شعيب عن الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن عبد الله بن عباس أخبره، أن أبا سفيان أخبره، أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش.
وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه و هم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بالترجمان فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟
قال أبو سفيان: فقلت أنا أقربهم نسبا.
قال: أدنوه مني، وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره.
ثم قال لترجمانه قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه.
قال: فوالله لولا الحياء من أن يؤثروا عني كذبا لكذبت عنه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟
قلت: هو فينا ذو نسب.
قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟
قلت: لا.
قال: فهل كان من آبائه من ملك؟
قلت: لا.
قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟
قلت: بل ضعفاؤهم.
قال: أيزيدون أم ينقصون؟
قلت: بل يزيدون.
قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟
قلت: لا.
قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟
قلت: لا.
قال: فهل يغدر؟
قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها؟
قال: ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة.
قال: فهل قاتلتمونه؟
قلت: نعم.
قال: فكيف كان قتالكم إياه؟
قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه.
قال: ماذا يأمركم؟
قلت: يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة.
فقال للترجمان: قل له سألتك عن نسبه، فزعمت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.
وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله، فذكرت أن لا، فقلت لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يتأسى بقول قيل قبله.
وسألتك هل كان من آبائه من ملك، فذكرت أن لا، فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه.
وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله.
وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل.
وسألتك أيزيدون أم ينقصون، فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حين يتم.
وسألتك أيرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر.
وسألتك بما يأمركم، فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة، والصدق، والعفاف، فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم، فلو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه.
ثم دعا بكتاب رسول الله الذي بعث به مع دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الإريسيين:
{ يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا تشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } .
قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب، كثر عنده الصخب، وارتفعت الأصوات وأخرجنا، فقلت لأصحابي حين خرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة أنه يخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام.
قال: وكان ابن الناطور صاحب إيلياء، وهرقل أسقف على نصارى الشام، يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوما خبيث النفس، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك.
قال ابن الناطور: وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمم؟
قالوا: ليس يختتن إلا اليهود ولا يهمنك شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك فليقتلوا من فيهم من اليهود.
فبينما هم على أمرهم، أتى هرقل برجل أرسل به ملك غسان، فخبرهم عن خبر رسول الله ، فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟
فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب فقال: هم يختتنون.
فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر.
ثم كتب إلى صاحب له برومية - وكان نظيره في العلم - وسار هرقل إلى حمص، فلم يرم بحمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي وهو نبي.
فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت لكم ملككم؟ فتتابعوا لهذا النبي، فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت.
فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان قال: ردوهم علي، وقال: إني إنما قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت فسجدوا له ورضوا عنه.
فكان ذلك آخر شأن هرقل.
قال البخاري: ورواه صالح بن كيسان، ويونس، ومعمر، عن الزهري.
وقد رواه البخاري في مواضع كثيرة في صحيحه بألفاظ يطول استقصاؤها.
وأخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من طرق، عن الزهري.
وقد تكلمنا على هذا الحديث مطولا في أول شرحنا لصحيح البخاري بما فيه كفاية، وذكرنا فيه من الفوائد، والنكت المعنوية، واللفظية، ولله الحمد والمنة.
وقال ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة قال: خرج أبو سفيان بن حرب إلى الشام تاجرا في نفر من قريش، وبلغ هرقل شأن رسول الله ، فأراد أن يعلم ما يعلم من شأن رسول الله .
فأرسل إلى صاحب العرب الذي بالشام في ملكه، يأمره أن يبعث إليه برجال من العرب يسألهم عنه، فأرسل إليه ثلاثين رجلا منهم أبو سفيان ابن حرب، فدخلوا عليه في كنيسة إيلياء التي في جوفها.
فقال هرقل: أرسلت إليكم لتخبروني عن هذا الذي بمكة ما أمره؟
قالوا: ساحر كذاب، وليس بنبي.
قال: فأخبروني من أعلمكم به، وأقربكم منه رحما؟
قالوا: هذا أبو سفيان ابن عمه، وقد قاتله.
فلما أخبروه ذلك أمر بهم، فاخرجوا عنه.
ثم أجلس أبا سفيان فاستخبره.
قال: أخبرني يا أبا سفيان.
فقال: هو ساحر كذاب.
فقال هرقل: إني لا أريد شتمه، ولكن كيف نسبه فيكم؟
قال: هو والله من بيت قريش.
قال: كيف عقله ورأيه؟
قال: لم يغب له رأي قط.
قال هرقل: هل كان حلافا كذابا مخادعا في أمره؟
قال: لا والله، ما كان كذلك.
قال: لعله يطلب ملكا أو شرفا كان لأحد من أهل بيته قبله؟
قال أبو سفيان: لا.
ثم قال: من يتبعه منكم هل يرجع إليكم منهم أحد؟
قال: لا.
قال هرقل: هل يغدر إذا عاهد؟
قال: لا، إلا أن يغدر مدته هذه.
فقال هرقل: وما تخاف من مدته هذه؟
قال: إن قومي أمدوا حلفاءهم على حلفائه وهو بالمدينة.
قال هرقل: إن كنتم أنتم بدأتم فأنتم أغدر.
فغضب أبو سفيان وقال: لم يغلبنا إلا مرة واحدة، وأنا يومئذ غائب، وهو يوم بدر، ثم غزوته مرتين في بيوتهم نبقر البطون ونجدع الآذان والفروج.
فقال هرقل: كذابا تراه أم صادقا؟
فقال: بل هو كاذب.
فقال: إن كان فيكم نبي فلا تقتلوه، فإن أفعل الناس لذلك اليهود.
ثم رجع أبو سفيان.
ففي هذا السياق غرابة، وفيه فوائد ليست عند ابن إسحاق ولا البخاري.
وقد أورد موسى بن عقبة في (مغازيه) قريبا مما ذكره عروة بن الزبير، والله أعلم.
وقال ابن جرير في (تاريخه): حدثنا ابن حميد، ثنا سلمة، ثنا محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم قال: إن هرقل قال لدحية بن خليفة الكلبي حين قدم عليه بكتاب رسول الله :
والله إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسل، وأنه الذي كنا ننتظره ونجده في كتابنا، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته فاذهب إلى صفاطر الأسقف فاذكر له أمر صاحبكم، فهو والله في الروم أعظم مني، وأجود قولا عندهم مني، فانظر ماذا يقول لك؟
قال: فجاء دحية فأخبره بما جاء به من رسول الله إلى هرقل وبما يدعو إليه.
فقال: صفاطر والله صاحبك نبي مرسل، نعرفه بصفته، ونجده في كتابنا باسمه.
ثم دخل وألقى ثيابا كانت عليه سودا، ولبس ثيابا بياضا، ثم أخذ عصاه فخرج على الروم في الكنيسة فقال: يا معشر الروم إنه قد جاءنا كتاب من أحمد يدعونا فيه إلى الله، وأني أشهد أن لا إله إلا الله وأن أحمد عبده ورسوله.
قال: فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فضربوه حتى قتلوه.
قال: فلما رجع دحية إلى هرقل فأخبره الخبر قال: قد قلت لك أنا نخافهم على أنفسنا، فصفاطر والله كان أعظم عندهم وأجوز قولا مني.
وقد روى الطبراني من طريق يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن عبد الله بن شداد، عن دحية الكلبي قال: بعثني رسول الله إلى قيصر صاحب الروم بكتاب فقلت: استأذنوا لرسول رسول الله .
فأتى قيصر فقيل له إن على الباب رجلا يزعم أنه رسول رسول الله، ففزعوا لذلك وقال: أدخله.
فأدخلني عليه وعنده بطارقته فأعطيته الكتاب فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى قيصر صاحب الروم، فنخر ابن أخ له أحمر أزرق سبط، فقال: لا تقرأ الكتاب اليوم، فإنه بدأ بنفسه وكتب صاحب الروم ولم يكتب ملك الروم.
قال فقُرئ الكتاب حتى فرغ منه، ثم أمرهم فخرجوا من عنده.
ثم بعث إلي فدخلت عليه فسألني فأخبرته، فبعث إلى الأسقف فدخل عليه - وكان صاحب أمرهم يصدرون عن رأيه وعن قوله - فلما قرأ الكتاب قال الأسقف: هو والله الذي بشرنا به موسى وعيسى الذي كنا ننتظر.
قال قيصر: فما تأمرني؟
قال الأسقف: أما أنا فإني مصدقه ومتبعه.
فقال قيصر: أعرف أنه كذلك، ولكن لا أستطيع أن أفعل، إن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم.
وبه قال محمد بن إسحاق، عن خالد بن يسار، عن رجل من قدماء أهل الشام قال: لما أراد هرقل الخروج من أرض الشام إلى القسطنطينية لما بلغه من أمر النبي ، جمع الروم فقال: يا معشر الروم إني عارض عليكم أمورا فانظروا فيما أردت بها؟
قالوا: ما هي؟
قال: تعلمون والله أن هذا الرجل لنبي مرسل، نجده نعرفه بصفته التي وصف لنا، فهلم فلنتبعه فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا.
فقالوا: نحن نكون تحت أيدي العرب، ونحن أعظم الناس ملكا، وأكثر رجالا، وأقصاه بلدا؟!
قال: فهلم أعطيه الجزية كل سنة أكسر شوكته، وأستريح من حربه بما أعطيه إياه.
قالوا: نحن نعطي العرب الذل والصغار بخراج يأخذونه منا، ونحن أكثر الناس عددا، وأعظمه ملكا، وأمنعه بلدا، لا والله لا نفعل هذا أبدا.
قال: فهلم فلأصالحه على أن أعطيه أرض سورية، ويدعني وأرض الشام.
قال: وكانت أرض سوريا: فلسطين، والأردن، ودمشق، وحمص، وما دون الدرب من أرض سورية، وما كان وراء الدرب عندهم فهو الشام.
فقالوا: نحن نعطيه أرض سوريا، وقد عرفت أنها سرة الشام، لانفعل هذا أبدا.
فلما أبوا عليه قال: أما والله لتودن أنكم قد ظفرتم إذا امتنعتم منه في مدينتكم.
قال: ثم جلس على بغل له، فانطلق حتى إذا أشرف على الدرب، استقبل أرض الشام ثم قال: السلام عليك يا أرض سورية تسليم الوداع، ثم ركض حتى دخل قسطنطينية، والله أعلم.
============================
إرساله صلى الله عليه وسلم إلى ملك العرب من النصارى بالشام
قال ابن إسحاق: ثم بعث رسول الله شجاع بن وهب، أخا بني أسد بن خزيمة، إلى المنذر ابن الحارث بن أبي شمر الغساني صاحب دمشق.
قال الواقدي: وكتب معه سلام على من اتبع الهدى، وأمن به، وأدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقى لك ملكك.
فقدم شجاع بن وهب فقرأه عليه فقال: ومن ينتزع ملكي؟ إني سأسير إليه
=============================
رسالته صلى الله عليه وسلم إلى كسري ملك الفرس :
وروى البخاري من حديث الليث، عن يونس، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس أن رسول الله بعث بكتابه مع رجل إلى كسرى، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه كسرى مزقه.
قال: فحسبت أن ابن المسيب قال: فدعا عليهم رسول الله أن يمزقوا كل ممزق.
وقال عبد الله بن وهب: عن يونس، عن الزهري، حدثني عبد الرحمن بن عبد القاري، أن رسول الله قام ذات يوم على المنبر خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه وتشهد، ثم قال: «أما بعد فإني أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك الأعاجم فلا تختلفوا علي كما اختلف بنو إسرائيل على عيسى بن مريم».
فقال المهاجرون: يا رسول الله أنا لا نختلف عليك في شيء أبدا فمرنا وابعثنا.
فبعث شجاع بن وهب إلى كسرى فأمر كسرى بإيوانه أن يزين، ثم أذن لعظماء فارس، ثم أذن لشجاع بن وهب، فلما أن دخل عليه أمر كسرى بكتاب رسول الله أن يقبض منه.
فقال شجاع بن وهب: لا حتى أدفعه أنا إليك كما أمرني رسول الله .
فقال كسرى: ادنه، فدنا فناوله الكتاب، ثم دعا كاتبا له من أهل الحيرة، فقرأه فإذا فيه: من محمد بن عبد الله ورسوله إلى كسرى عظيم فارس.
قال: فأغضبه حين بدأ رسول الله بنفسه، وصاح، وغضب، ومزق الكتاب قبل أن يعلم ما فيه، وأمر بشجاع بن وهب فأخرج.
فلما رأى ذلك قعد على راحلته، ثم سار، ثم قال: والله ما أبالي على أي الطريقين أكون، إذ أديت كتاب رسول الله .
قال ولما ذهب عن كسرى سورة غضبه، بعث إلى شجاع ليدخل عليه، فالتمس فلم يوجد، فطلب إلى الحيرة فسبق.
فلما قدم شجاع على النبي أخبره بما كان من أمر كسرى، وتمزيقه لكتاب رسول الله ، فقال رسول الله : «مزق كسرى ملكه».
وروى محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبي سلمة، أن رسول الله بعث عبد الله بن حذافة بكتابه إلى كسرى، فلما قرأه مزقه، فلما بلغ رسول الله قال: «مزق ملكه».
وقال ابن جرير: حدثنا أحمد بن حميد، ثنا سلمة، ثنا ابن إسحاق، عن زيد بن أبي حبيب قال: وبعث عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم إلى كسرى بن هرمز ملك فارس، وكتب معه:
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وأمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاء الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، فإن تسلم تسلم، وإن أبيت فإن إثم المجوس عليك.
قال: فلما قرأه شقه وقال: يكتب إلي بهذا وهو عبدي؟!
قال: ثم كتب كسرى إلى باذام وهو نائبه على اليمن، أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز، رجلين من عند جلدين فليأتياني به.
فبعث باذام قهرمانه - وكان كاتبا حاسبا - بكتاب فارس وبعث معه رجلا من الفرس يقال له خرخرة، وكتب معهما إلى رسول الله ، يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى.
وقال لأبا ذويه: إيتِ بلاد هذا الرجل وكلمه وائتني بخبره.
فخرجا حتى قدما الطائف فوجدا رجلا من قريش في أرض الطائف، فسألوه عنه فقال: هو بالمدينة.
واستبشر أهل الطائف - يعني وقريش بهما - وفرحوا وقال بعضهم لبعض: أبشروا فقد نصب له كسرى ملك الملوك كفيتم الرجل.
فخرجا حتى قدما على رسول الله فكلمه أبا ذويه فقال: شاهنشاه ملك الملوك كسرى قد كتب إلى الملك باذام يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثني إليك لتنطلق معي، فإن فعلت كتب لك إلى ملك الملوك ينفعك ويكفه عنك، وإن أبيت فهو من قد علمت، فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك.
ودخلا على رسول الله وقد حلقا لحاهما، وأعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما وقال: «ويلكما من أمركما بهذا؟».
قالا: أمرنا ربنا - يعنيان كسرى -.
فقال رسول الله : «ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي، وقص شاربي».
ثم قال: «ارجعا حتى تأتياني غدا».
قال: وأتى رسول الله الخبر من السماء بأن الله قد سلط على كسرى ابنه شيرويه، فقتله في شهر كذا وكذا، من ليلة كذا وكذا من الليل، سلط عليه ابنه شيرويه فقتله.
قال: فدعاهما فأخبرهما، فقالا: هل تدري ما تقول؟ أنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا، فنكتب عنك بهذا، ونخبر الملك باذام.
قال: «نعم أخبراه ذاك عني، وقولا له إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ كسرى، وينتهي إلى الخف والحافر، وقولا له إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك، وملكتك على قومك من الأبناء».
ثم أعطى خرخرة منطقة فيها ذهب وفضة، كان أهداها له بعض الملوك.
فخرجا من عنده حتى قدما على باذام، فأخبراه الخبر فقال: والله ما هذا بكلام ملك، وإني لأرى الرجل نبيا كما يقول، وليكونن ما قد قال، فلئن كان هذا حقا فهو نبي مرسل، وإن لم يكن فسنرى فيه رأيا.
فلم ينشب باذام أن قدم عليه كتاب شيرويه أما بعد: فإني قد قتلت كسرى، وما أقتله إلا غضبا لفارس لما كان استحل من قتل أشرافهم، ونحرهم في ثغورهم، فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك، وانطلق إلى الرجل الذي كان كسرى قد كتب فيه، فلا تهجه حتى يأتيك أمري فيه.
فلما انتهى كتاب شيرويه إلى باذام قال: إن هذا الرجل لرسول، فأسلم وأسلمت الأبناء من فارس من كان منهم باليمن.
قال: وقد قال باذويه لباذام: ما كلمت أحدا أهيب عندي منه.
فقال له باذام: هل معه شرط؟
قال: لا.
قال الواقدي رحمه الله: وكان قتل كسرى على يدي ابنه شيرويه، ليلة الثلاثاء لعشر ليال مضين من جمادى الآخرة من سنة سبع من الهجرة، لست ساعات مضت منها.
قلت: وفي شعر بعضهم ما يرشد أن قتله كان في شهر الحرام، وهو قول بعض الشعراء:
قتلوا كسرى بليل محرما * فتولى لم يمتع بكفن
وقال بعض شعراء العرب:
وكسرى إذ تقاسمه بنوه *بأسياف كما اقتسم اللحام
تمخضت المنون له بيوم * أتى ولكل حاملة تمام
وروى الحافظ البيهقي من حديث حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، عن أبي بكرة أن رجلا من أهل فارس أتى رسول الله ، فقال رسول الله : «إن ربي قد قتل الليلة ربك» يعني كسرى.
قال: وقيل له - يعني النبي -: إنه قد استخلف ابنته فقال: «لا يفلح قوم تملكهم امرأة».
قال البيهقي: وروى في حديث دحية بن خليفة الكلبي أنه لما رجع من عند قيصر، وجد عند رسول الله رسل كسرى، وذلك أن كسرى بعث يتوعد صاحب صنعاء ويقول له: إلا تكفيني أمر رجل قد ظهر بأرضك يدعوني إلى دينه، لتكفينه أو لأفعلن بك.
فبعث إليه فلما قرأ النبي كتاب صاحبهم تركهم خمس عشرة ليلة ثم قال لهم: «اذهبوا إلى صاحبكم أخبروه أن ربي قد قتل ربه الليلة» فوجدوه كما قال.
قال: وروى داود بن أبي هند، عن عامر الشعبي نحو هذا.
ثم روى البيهقي من طريق أبي بكر بن عياش، عن داود بن أبي هند، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: أقبل سعد إلى رسول الله فقال: «إن في وجه سعد خبرا».
فقال: يا رسول الله هلك كسرى.
فقال: «لعن الله كسرى، أول الناس هلاكا فارس، ثم العرب».
قلت: الظاهر أنه لما أخبر رسول الله بهلاك كسرى لذينك الرجلين - يعني الأميرين اللذين قدما من نائب اليمن باذام - فلما جاء الخبر بوفق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام، وشاع في البلاد.
وكان سعد بن أبي وقاص أول من سمع، جاء إلى رسول الله فأخبره بوفق إخباره عليه السلام، وهكذا بنحو هذا التقدير ذكره البيهقي رحمه الله.
ثم روى البيهقي من غير وجه، عن الزهري: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أنه بلغه أن كسرى بينما هو في دسكرة ملكه بعث له - أو قيض له - عارض يعرض عليه الحق فلم يفجأ كسرى إلا برجل يمشي وفي يده عصا.
فقال: يا كسرى هل لك في الإسلام قبل أن أكسر هذه العصا؟
فقال كسرى: نعم، لا تكسرها.
فولى الرجل.
فلما ذهب أرسل كسرى إلى حجابه، فقال: من أذن لهذا الرجل علي؟
فقالوا: ما دخل عليك أحد.
فقال: كذبتم.
قال: فغضب عليهم وتهددهم، ثم تركهم.
قال: فلما كان رأس الحول أتى ذلك الرجل ومعه العصا، قال: يا كسرى هل لك في الإسلام قبل أن أكسر هذه العصا؟
قال: نعم لا تكسرها.
فلما انصرف عند دعا حجابه قال لهم كالمرة الأولى، فلما كان العام المستقبل أتاه ذلك الرجل معه العصا، فقال له: هل لك يا كسرى في الإسلام قبل أن أكسر هذه العصا؟
فقال: لا تكسرها لا تكسرها فكسرها، فأهلك الله كسرى عند ذلك.
وقال الإمام الشافعي: أنبا ابن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، فوالذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله».
أخرجه مسلم من حديث ابن عيينة، وأخرجاه من حديث الزهري به.
قال الشافعي: ولما أتى كسرى بكتاب رسول الله مزقه، فقال رسول الله : «يمزق ملكه».
وحفظنا أن قيصر أكرم كتاب رسول الله ووضعه في مسك، فقال رسول الله : «ثبت ملكه».
قال الشافعي وغيره من العلماء: ولما كانت العرب تأتي الشام والعراق للتجارة، فأسلم من أسلم منهم، شكوا خوفهم من ملكي العراق والشام إلى رسول الله ، فقال: «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده».
قال: فباد ملك الأكاسرة بالكلية، وزال ملك قيصر عن الشام بالكلية، وإن ثبت لهم ملك في الجملة ببركة دعاء رسول الله حين عظموا كتابه، والله أعلم.
قلت: وفي هذا بشارة عظيمة بأن ملك الروم لا يعود أبدا إلى أرض الشام، وكانت العرب تسمي قيصر لمن ملك الشام مع الجزيرة من الروم، وكسرى لمن ملك الفرس، والنجاشي لمن ملك الحبشة، والمقوقس لمن ملك الإسكندرية، وفرعون لمن ملك مصر كافرا، وبطليموس لمن ملك الهند، ولهم أعلام أجناس غير ذلك، وقد ذكرناها في غير هذا الموضع، والله أعلم.
وروى مسلم: عن قتيبة وغيره، عن أبي عوانة، عن سماك، عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله : «لتفتحن عصابة من المسلمين كنوز كسرى في القصر الأبيض».
وروى أسباط، عن سماك، عن جابر بن سمرة مثل ذلك، وزاد: وكنت أنا وأبي فيهم، فأصبنا من ذلك ألف درهم.