الدولة الطولونية
(254-292هـ/ 868-905م)
فى عهد الخليفة الواثق:
ازداد نفوذ الأتراك، وأخذوا يتولون المناصب الكبري، ويتقاسمونها فيما بينهم.
كانت مصر من نصيب "باكباك" التركى
ولكن "باكباك" فَضَّلَ أن يبقى فى العاصمة "بغداد" ويبعث من ينوب عنه فى ولاية مصر.,وقد اختار ( أحمد بن طولون) وهو شاب نشأ فى صيانة وعفاف ودراسة للقرآن مع حسن صوت به، وكان والده مملوكًا تركيا بعث به والى بلاد "ما وراء النهر" إلى الخليفة "المأمون العباسي" ؛ولما مات والده تزوج باكباك أم أحمد .
--------------------------
سنة 868م
جاء أحمد بن طولون ليحكم مصر نيابة عن "باكباك" التركي، ولكن موقع مصر الجغرافي، وبُعد المسافة بين العاصمة المصرية "الفسطاط" والعاصمة العباسية "بغداد" أغري أحمد بن طولون عندما استقر فى مصر سنة 254هـ بجمع مقاليد السلطة كلها فى يده.
لقد عزل الموظف العباسى المختص بالشئون المالية فى مصر واسمه "عامل الخراج" وصار هو الحاكم الإدارى والمالى والعسكري.
وكان له ما أراد، فأقر الأمور فى البلاد، وقضى على الفتن، ونشر الطمأنينة فى ربوع الوادي، وعَمَّ البلاد الرخاء.
استقلال مصر عن الخلافة:
ولقد أتاحت له الظروف أن يعلن استقلاله بالبلاد فى عهد الخليفة المعتمد العباسي، عندما بعث ابن طولون بإعانة مالية للخلافة مساعدة منه فى القضاء على "ثورة الزنج". ولكن "طلحة" أخا الخليفة بعث يتهم ابن طولون بالتقصير فى إرسال المال الكافي، ويتهدده ويتوعده، وهنا كان رد ابن طولون قاسيا وعنيفًا، ولم يكتف بهذا بل أعلن استقلاله بالبلاد.
وباستقلال مصر تأسست فى مصر "الدولة الطولونية" نسبة إلى منشئها أحمد بن طولون،
----------------------------
وراح أحمد بن طولون يعدّ جيشًا قويا لحماية البلاد داخليا وخارجيا؛ وقد بلغ تعداد جيش مصر فى عهد أحمد بن طولون مائة ألف جندي.
----------------------------
القطائع عاصمة مصر:
وراح يفكر فى اتخاذ عاصمة له غير "الفسطاط" تضارعها وتنافسها، فاتخذ الأرض الواقعة بين السيدة زينب والقلعة وسماها "القطائع"، وعليها أقام جامعه الكبير الذى ما زال موجودًا حتى الآن، وجعله معهدًا لتدريس العلوم الدينية، وكان ابن طولون رجل صلاح وبرٍّ، يتصدق من خالص ماله فى كل شهر ألف دينار.
وقد رابطت فى العاصمة الجديدة طوائف الجند حيث أقطعهم أحمد بن طولون أرضًا يقيمون عليها.
---------------------------
حماية الثغور:
وأمام ما وصل إليه أحمد بن طولون من قوة، كان لابد أن تتقرب إليه الخلافة العباسية ليقف إلى جانبها فى مواجهة الروم البيزنطيين، الذين لا يكفُّون عن الإغارة من آسيا الصغري.
إن شمال الشام منطقة حساسة، وكانت المناطق الملاصقة للروم فيه تعرف باسم "إقليم العواصم والثغور" فهى تشتمل على المنافذ والحصون القائمة فى جبال طوروس.
فليس عجيبًا إذن أمام ضعف الخليفة وقوة أحمد بن طولون أن يعهد إليه بولاية الثغور الشامية للدفاع عنها ورد كيد المعتدين.
لقد كان أحمد بن طولون مهيأً لهذه المهمة وجديرًا بها، فبعث بجزء من جيشه وأسطوله ليرابط هناك على الحدود، يحمى الثغور، ويؤمن المنافذ والحصون.
--------------------------------
878م ؟
الوحدة بين مصر والشام:
توفى والى الشام التركى سنة 264هـ، فيضم أحمد بن طولون البلاد إليه لكى يستكمل وسائل الدفاع على إقليم الثغور.
وصارت مصر والشام فى عهد الدولة الطولونية وحدة لها قوتها فى الشرق العربي، تحمل راية الدفاع عن أرض الإسلام ضد الروم، بينما عجزت الخلافة العباسية فى ذلك الوقت عن مواجهة قوى الشر والعدوان، وأمام قوة أحمد بن طولون وقيامه بتوحيد الشام ومصر تحت إمرته خشى أباطرة الروم سلطانه، وخافوا سطوته، فبعثوا إليه يودون أن يعقدوا هدنة معه، بل لقد حدث أكثر من ذلك، لقد عزم الخليفة العباسى "المعتمد" على مغادرة البلاد سرّا فرارًا من سيطرة أخيه الموفق "طلحة"، فأين يذهب يا تري؟!
لقد قرر اللجوء إلى أحمد بن طولون صاحب القوة الجديدة فى مصر والشام، ولكن أخاه الموفق أعاده إلى عاصمة الخلافة بالعراق.
وظلت الوحدة بين الشام ومصر قائمة فى عهد أحمد بن طولون، وراحت قواته البحرية والبرية تحمى هذه الوحدة وتعلى قدرها فى شرق البحر الأبيض المتوسط.
==============================
ولاية خمارويّه:
ويتولى ابنه "خُمارويه" بعده حاملاً راية الدفاع عن مصر والشام كما كان أبوه. ولكن "طلحة" أخا الخليفة "المعتمد" يعود إلى محاولاته ودسائسه لإعادة مصر والشام إلى سيطرة الخلافة العباسية.
ويعد خمارويه جيشًا يتولى قيادته بنفسه، ويهزم قوات أخى الخليفة عند دمشق فى معركة "الطواحين" سنة 273هـ/ 887م، فلا يملك إلا أن يعقد مع "خمارويه" صلحًا اعترفت فيه الخلافة العباسية بولاية خمارويه على مصر والشام، ولأبنائه من بعده لمدة ثلاثين سنة. وكان نصرًا رائعًا أتاح له أن يسيطر على منطقة العواصم والثغور، وأصبح "خمارويه" قوة يرهبها الروم.
مصاهرة الخليفة:
وهكذا القوة تكسب أصحابها الاحترام والسيطرة والنفوذ، وتزداد العلاقة بين خمارويه والخلافة العباسية قوة، حيث يتزوج الخليفة المعتمد "العباسة" بنت خمارويه المعروفة باسم "قطر الندي"، وهى التى جهزها أبوها بجهاز لم يسمع بمثله.
وراح خمارويه يهتم بمرافق الدولة، ويخصص الأموال لمساعدة الفقراء والمحتاجين، ويشيد القصور الضخمة فى عاصمة أبيه "القطائع". وظل خلفاء خمارويه فى الحكم ما يقرب من عشر سنوات بعد وفاته مقتولا عام 282هـ/ 895م.
إعادة الدولة إلى الخلافة:
لقد ولى مصر بعد خمارويه ثلاثة من آل طولون لم يسيروا على نهجه، بل انغمسوا فى اللهو والملذات، فكثر الطامعون فى الحكم، وانتشرت الفوضي، وانتهى الأمر بعودة جيوش الخلافة العباسية لاسترداد مصر من يد رابع الولاة الطولونيين عليها.
وفى سنة 292هـ/ 905م دخلت الجيوش العباسية القطائع تحت قيادة محمد بن سليمان وقد قبض على الطولونيين وحبسهم وأخذ أموالهم وأرسلهم إلى الخليفة، وأزال بقايا الدولة الطولونية التى حكمت مصر والشام مدة ثمانية وثلاثين عامًا.
==================================================
ونختم قولنا هنا بذكر النص التالى علي بضع فقرات وهو منقول من كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» :
============================
ثم إن فتيحة أم المعتز كتبت إلى أحمد بن طولون بقتل المستعين وقلدته واسط فامتنع من ذلك وكتب إلى الأتراك يخبرهم بأنه لا يقتل خليفة له في رقبته بيعة فزاد محله عند الأتراك بذلك ووجهوا سعيد الحاجب وكتبوا إلى ابن طولون بتسليم المستعين له فتسلمه منه وقتله وواراه ابن طولون وعاد إلى سر من رأى
وقد تقلد باكباك مصر وطلب من يوجهه إليها فذكر له أحمد بن طولون فقلده خلافته وضم إليه جيشًا وسار إلى مصر فدخلها يوم الأربعاء لسبع بقين من شهر رمضان سنة ٢٥٤ هجريةمتقلدًا للقصبة دون غيرها من الأعمال الخارجة عنها كالإسكندرية ونحوها
ودخل معه أحمد بن محمد الواسطي وجلس الناس لرؤيته فسأل بعضهم غلام أبي قبيل: صاحب الملاحم وكان مكفوفًا عما يجده في كتبهم فقال: هذا رجل نجد صفته كذا وكذا وأنه يتقلد الملك هو وولده قريبًا من أربعين سنة فما تم كلامه حتى أقبل أحمد بن طولون وإذا هو على النعت الذي قال.
ولما تسلم أحمد بن طولون مصر كان على الخراج (أحمد بن محمد بن المدبر ) وهو من دهاة الناس وشياطين الكتاب فأهدى إلى أحمد بن طولون هدايا قيمتها عشرة آلاف دينار بعدما خرج إلى لقائه هو وشقير الخادم غلام فتيحة أم المعتز وهو يتقلد البريد فرأى ابن طولون بين يدي ابن المدبر مائة غلام من الغور قد انتخبهم وصيرهم عدة وجمالًا وكان لهم خلق حسن وطول أجسام وبأس شديد وعليهم أقبية ومناطق تقال عراض وبأيديهم مقارع غلاظ على طرف كل مقرعة مقمعة من فضة وكانوا يقفون بين يديه في حافتي مجلسه إذا جلس فإذا ركب ركبوا بين يديه فيصير له بهم هيبة عظيمة في صدور الناس فلما بعث ابن المدبر بهديته إلى ابن طولون ردها عليه فقال ابن المدبر: إن هذه لهمة عظيمة من كانت هذه همته لا يؤمن على طرف من الأطراف
فخافه وكره مقامه بمصر معه
وسار إلى شقير الخادم صاحب البريد واتفقا على مكاتبة الخليفة بإزالة ابن طولون فلم يكن غير أيام حتى بعث ابن طولون إلى ابن المدبر يقول له: قد كنت أعزك الله أهديت لنا هدية وقع الغنى عنها ولم يجز أن يغتنم مالك كثره الله فرددتها توفيرًا عليك ونحب أن تجعل العوض منها الغلمان الذين رأيتهم بين يديك فأنا إليهم أحوج منك
فقال ابن المدبر: لما بلغته الرسالة هذه أخرى أعظم مما تقدم قد ظهرت من هذا الرجل إذ كان يرد الأعراض والأموال ويستهدي الرجال ويثابر عليهم
ولم يجد بدًا من أن بعثهم إليه فتحولت هيبة ابن المدبر إلى ابن طولون ونقصت مهابة ابن المدبر بمفارقة الغلمان مجلسه.
فكتب ابن المدبر فيه إلى الحضرة يغري به ويحرض على عزله
فبلغ ذلك ابن طولون فكتم في نفسه ولم يبده
واتفق موت المعتز في رجب سنة ٢٥٥ هجرية وقيام المهتدي بالله محمد بن الواثق وقتل باكباك ورد جميع ما كان بيده إلى ماجور التركي حموا بن طولون فكتب إليه: تسلم من نفسك لنفسك وزاده الأعمال الخارجة عن قصبة مصر
وكتب إلى إسحاق بن دينار وهو يتقلد الإسكندرية أن يسلمها لأحمد بن طولون فعظمت لذلك منزلته وكثر قلق ابن المدبر وغمه ودعته ضرورة الخوف من ابن طولون إلى ملاطفته والتقرب من خاطره
وخرج ابن طولون إلى الإسكندرية وتسلمها من إسحاق بن دينار وأقره عليها وكان أحمد بن عيسى بن شيخ الشيباني يتقلد جندي فلسطين والأردن فلما مات وثب ابنه على الأعمال واستبد بها فبعث ابن المدبر ٧٥٠ ألف دينار حملًا من مال مصر إلى بغداد فقبض ابن شيخ عليها وفرقها في أصحابه وكانت الأمور قد اضطربت ببغداد فطمع ابن شيخ في التغلب على الشامات وأشيع أنه يريد مصر فلما قتل المهتدي في رجب سنة ٢٥٦هجرية وبويع المعتمد بالله أحمد بن المتوكل لم يدع ابن شيخ له ولا بايع هو ولا أصحابه فبعث إليه بتقليد أرمينيا زيادة على ما معه من بلاد الشام وفسح له في الاستخلاف عليها والإقامة على عمله فدعا حينئذ للمعتمد وكتب إلى ابن طولون أن يتأهب لحرب ابن شيخ وأن يزيد في عدته وكتب لابن المدبر أن يطلق له المال ما يريد فعرض ابن طولون الرجال وأثبت من يصلح واشترى العبيد من الروم والسودان وعمل سائر ما يحتاج إليه وخرج في تجمل كبير وجيش عظيم وبعث إلى ابن شيخ يدعوه إلى طاعة الخليفة ورد ما أخذ من المال فأجاب بجواب قبيح فسار لست خلون من جمادى الآخرة واستخلف أخاه موسى بن طولون على مصر ثم رجع من الطريق بكتاب ورد عليه من العراق ودخل الفسطاط في شعبان.