بقلم : د.شفيق جاسر أحمد محمود
أستاذ مشارك بقسم التاريخ بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول اللّه وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد:
فـما من زمن تفرق فيه المسلمون، وضعفت شوكتهم، وتكالب عليهم أعداؤهم، إلا ووفى اللّه تعـالى للمؤمنين بوعده في حفظ دينه، فيسر لهم من يجمع شملهم، وبقيل عثرتهم، ويقودهم إلى مجاهدة عدوهم.
والمـماليك البحرية نموذج لمثل هؤلاء الذين وفقهم اللّه للدفاع عن الإسلام وبلاد المسلمين، فتمكنوا مِن رد الخطر المغولي الماحق، ومن تطهير البلاد من بقايا الصليبيين. فلله الحمد أولاً وآخراً.
الممـاليك:
يطلق اسم (المماليك) اصطلاحا، على أولئك الرقيق- الأبيض غالبا- الذين درج بعض الحكام المسلمين على استحضارهم من أقطار مختلفة وتربيتهم تربية خاصة، تجعل منهم محاربـين أشداء، استطاعوا فيما بعد أن يسيطروا على الحكم في مصر وأحيانا الشام والحجاز وغيرها قرابة الثلاثة قرون من الزمان ما بين 648-922 هـ (1250-1517م).
وكلمة (مماليك): جمع مملوك، وهو الرقيق الذي يباع ويشترى، وهي اسم مفعول من الفعل (ملك)، واسم الفاعل (مالك) والمملوك هو عبد مالكه، ولكنه يختلف عن العبد الذي بمعنى الخادم. كـما أن كلمة (مماليك) تختلف في معناها عن كلمة (موالي) التي مفردها (مولى)، والتي تعني- اصطلاحا- عند المؤرخين المسلمين: كل من أسلم من غير العـرب. فالمـوالي قد يكون أصل بعضهم من أسرى الحروب الذين استرقوا ثم أعتقوا، أو من أهل البلاد المفتوحة الذين انضموا إلى العرب فصاروا موالي بالحلف والموالاة.
والرق وأسباب الاسترقاق قديم قدم الإنسان، عرفته الأمم الغابرة من سكان ما بين النهرين، ووادي النيل، واليونان، والرومان، والعرب في الجزيرة العربية، وأقرته معظم الديانات كاليهودية والنصرانية، أما الإسلام فإنه لم ينص على إلغائه وتحريمه صراحة، ولكنه حض على تحرير الأرقاء، وعلى حسن معاملتهم، كـما نظم العلاقة بينهم وبين سادتهم بما يجعلهم إخوانا في الإسلام والإنسانية متحابين، يعلم كل منهم حقوقه وواجباته، حتى صار الكثيرون من الموالي شديدي الوفاء والإخلاص لسادتهم.
والتاريخ الإسلامي ملئ بأمثلة تدل على أن المسلمـين استجابوا لشرائع دينهم، فأكرموا هؤلاء الموالي والأرقاء، ووثقوا بهم، ورفعوهم إلى أعلى الدرجات، ولو أردنا أن نذكر جميع الأمثلة على ذلك لأطلنا، ولكنني أجتزئ بعض الأمثلة على ذلك
;
فقد تولى وردان مولى عمرو بن العاص خراج مصر،
واستعمل مسلمة بن مخلد- والي مصر وأفريقيا في عهد معاوية بن أبي سفيان- استعمل مولاه أبا المهاجر دينار على أفريقية عام 50 هـ.
كـما ولى أفريقية عام 73 هـ تليد مولى عبد العزيز بن مروان.
وكان موسى بن نصير القائد المشهور، وفاتح أفريقيا، مولى لامرأة لخمية، وقيل بل مولى لبني أمية.
كـما كان طارق بن زياد... وهو بربري من قبيلة نفرة مولى لموسى بن نصير.
وكان العالم الجليل الحسن البصري مولى لزيد بن ثابت رضي اللّه عنه من سبي ميسان.
هذا وقد حذا العباسيون حذو سابقيهم من الأمويين والراشدين في الاستعانة بالموالي ومعظمهم من مماليكهم، حيث روى عن أبي جعفر المنصور أنه سأل أحد الأمويين عمن وجد الأمويون عندهم الوفاء بعدما أصابهم فقال: الموالي، فقرر المنصور أن يعتمد على مواليه ويستعين بهم.
وكان الخليفة المأمون العباسي (198- 8 1 2 هـ)- (813 - 833 م) أول من استكثر من المماليك، حيث ضم بلاطه عددا من هؤلاء المماليك المعتوقين، ثم تلاه أخوه المعتصم (218-227 هـ)- (833 هـ 843 م) الذي أراد أن يحد منِ نفوذ جنوده من الفرس والعرب فكون جيشا أغلبه من التركـمان، كان يشتريهم صغاراً ويربيهم حتى وصل عددهم إلى عشرين ألفا.
أما أحمد بن طولون والي مصر، فقد اعتمد على المماليك اعتمادا يكاد يكون كليا، حيث كان والده طولون مملوكا تركيا أهدي للمأمون عام 200 هـ (815 م)، فقد أحضر أحمد هذه المماليك من بلاد جنوب بحر قزوين وبلاد الديلم، حتى زادوا عن الأربعة عشر ألف تركي وأربعين ألف مملوك أسود، بالإضافة لسبعة آلاف من المرتزقة.
وقـام الأخشيديون بالسـير على نفس السياسة، حتى أن محمد بن طغج الأخشيد مؤسس دولتهم في مصر 323- 358 هـ (935-969م)، جعل منهم جيشا يضم أربعمائة ألف من الديلم والترك، بالإضافة لحرسه الخاص الذيَ تجاوز الثمانية آلاف.
وأعتمـد الفـاطميون خلال حكمهم في أفـريقيا على المغاربة المصامدة، وعندما استولوا على مصر عام 358هـ (969 م) استكثروا من الديلم والأتراك والغز والأكراد.
أما الأيوبيون، فإن استكثارهم من المماليك كان سببا في قيام الدولة المملوكية، حيث إنهم قاموا منذ وقت مبكرين دولتهم 597 هـ (1200م)، بجلب أعداد كبيرة من المـماليك الصغار عن طريق النخاسين الذين كانوا يحضرونهم من شبه جزيرة القرم، وبلاد القوقاز والقفجـاق، ومـا وراء النهر، وآسيا الصغرى، وفارس، وتركستان، وحتى من البلاد الأوربية حيث ازدهرت حركـة تجارة لنخـاسـة في أوربا قبل عصر المماليك، ومارسها البنادقة والجنويون فكانوا يشترون المـماليك من سواحل البحر ا الأسود ويبيعونهم في مصر، فبلغ من كانـوا يبيعـونهم في العـام الواحد ألفين من المغول والشراكسة والروم والألبانيين والصقالية والعرب.
وكـانت أشهـر أسـواق بيع هؤلاء المـماليك، خان مسرور في القـاهرة، وسوق الإسكندرية.
والذي شجع الأيوبيين في مصر والشام على الاستكثار من هؤلاء المماليك هو ضعف شأنهم بعـد وفاة صلاح الدين رحمه اللّه 589 هـ (1193م)، وانقسام الدولة بين الأيوبيين الـذين لقبـوا أنفسهم بالملوك في كل من مصر، ودمشق، وحلب، والكـرك، وبعلبك، وحمـص، وحماه، حيث قامت بينهم منافسات وحروب كثيرة، كـما قامت بينهم من جهة وبين أبناء البيوتات الأخرى مثل آل زنكي وأهل البلاد الآخرين حروب مشابهة، مما اضطر كل منهم للبحث عن عصبية تحميه وقت الشدة، وتساعده في صد أعدائه، فكان الإكثار من الرقيق الأبيض (المماليك) خير وسيلة لتحقيق ذلك وللوقوف في وجه الصليبيين في الشـام، ولـذلـك بني لهم الملك الصـالـح- نجم الـدين أيوب 637-647 هـ (1240-1250م) المعسكـرات في جزيرة الروضة 638 هـ (1241م) وسماهم بالمماليك البحرية الصالحية، وسكن في القلعة عندهم ورتب جماعة منهم حول دهليز، واعتمد عليهم في صد غزوة لويس التاسع بمصر.
ومما زاد من دالتهم عليه كونهم قد دبروا مؤامرة لخلع العادل الثاني وأحلوا الملك الصالح محله 637 هـ (1239م)، ثم زاد خطرهم حتى أنهم دبروا مؤامرة لقتله عندما غضب عليهم لإهمالهم في الدفاع عن دمياط أمام لويس التاسع عام 647 هـ، ولولا مرضه الذي توفى فيه لما نجا من شرهم.
===========================================
أساليب تربية وتدريب هؤلاء المماليك: عني سلاطين الأيوبيين ومن بعدهم سلاطين المماليك، بتربية مماليكهم تربية خاصة، وتثقيفهم وتعليمهم فنون الحرب والقتال، وخصصوا لذلك ثكنات عسكرية في قلعة الجبل عرفت بالطباق، كان عددها اثني عشرة طبقة واسعة تشبه كل منها حارة كبيرة تشتمل على مسـاكن عديدة، تتسع لحوالي ألف مملوك، ولم يكن يسمح لهؤلاء المماليك، وخصوصا الصغار منهم بمغادرة تلك الطباق إلا فيما ندر.
وقد وصف المقريزي الحياة والعادات ومواد التدريس ومراحله فقال:
"كان للمماليك بهذه الطباق عادات جميلة، منها أنه إذا قدم بالمملوك تاجره، عرضه على السلطان، وأنزله في طبقة جنسه، وسلمه لطواشي برسم الكتابة، فأول ما يبدأ به تعليمه ما يحتاج إليه من القرآن الكريم، وكانت كل طائفة لها فقيه يحضر إليها كـل يوم، ويأخذ في تعليمها كتاب الله تعالى، ومعرفة الخط والتحدث بآداب الشريعة، وملازمة الصلوات والأذكار، وكان الرسم إذ ذاك ألا يجلب التجار إلا المماليك الصغار، فإذا شب الواحد من المـماليك، علمه الفقيه شيئا من الفقه، وأقرأه فيه مقدمة، فإذا صار إلى سن البلوغ، أخذ في تعليمه أساليب الحرب، من رمي السهام، ولعب الرمح، ونحو ذلك فيتسع في ذلك حتى يبلغ الغاية في معرفة ما يحتاج".
وكـان السلاطين يشرفون بأنفسهم على تربية مماليكهم ويتفقدون أحوالهم، ومنهم السلطان النـاصر قلاوون 679-689 هـ (1280-1290م) الـذي كان يهتم بطعـامهم ومعيشتهم بنفسه، ويقول معتزا بهم: "كل الملوك عملوا شيئا يذكرون به ما بين مال ورجال وعقار، وأنا عمرت أسوارا وعملت حصونا لي ولأولادي وللمسلمين وهم المماليك".
وصـدق ظنه بهم إذ قال أبو المحاسن عن مماليك قلاوون هذا: "فكان بهم- أي المـماليك- منفعة للمسلمين ومضرة للمشركين، وقيامهم في الغزوات معروف، وشرهم عن الرعية معكوف" .
وكان السلاطين ومقدمو المـماليك يوصون القائمين على شؤونهم وخصوصا على شؤون الـطبـاق المـذكـورة أن يأخذوهم بالحسنى وأن يعطفوا عليهم، حيث جاء في وصية أحد المقدمين إلى القائمين على شؤون تربيتهم:"ليحسن إليهم، وليعلم أنه واحد منهم، ولكنه مقدم عليهم، وليأخذ بقلوبهم، مع إقامة المهابة التي تخيل إليهم أنه معهم، وخلفهم، وبين أيديهم، وليلزم مقدم كل طبقة بما يلزمه عند تقسيم صدقاتنا الجارية عليهم، وليكن لأحوالهم متعهدا ولأمورهم متفقدا...".
هذا ولا يعني التهاون معهم إلى الحد الذي يفسد تربيتهم فقد كانوا يؤخذون أحيانا بالقسوة والشدة إذا ما ارتكبوا خطأ. وقد وصف المقريزي ذلك فقال:
"ولهم أزمة من النواب، وأكابر من رؤوس النوب، يفحصون عن حال الواحد منهم الفحص الشافي، ويؤاخذونه أشد المؤاخذة، ويناقشونه على حركاته وسكناته، فإذا عثر أحد مؤدبيه الذين يعلمونه القرآن، أو الطواشي الذي هو مسلم إليه، أو رأس النوب الذي هو حاكم عليه، على أنه اقترف ذنبا أو أخل برسم أو ترك أدبا من آداب الدين والدنيا، قابله على ذلك بعقوبة شديدة قدر جرمه... فلذلك كانوا سادة يديرون الممالك، وقادة يجاهدون في سبيل اللّه، وأهل سياسة يبالغون في إظهار الجميل، ويردعون من جار واعتدى".
ولكن هذه السياسة المتزنة في تربيتهم بين الشدة عليهم، والرحمة بهم، لم تدم طويلا، وحل محلها الدلال والتهاون، خصوصا في الأمور الدينية، مما سبب فساد أجيالهم فعم بذلك ضررهم على الخاصة والعامة، وأضعف شأنهم، وحط من قيمتهم.
قال المقريزي في وصف تلك التربية المتهاونة وما نتج عنها: "واستقر رأي الناصر على أن تسليم المماليك للفقيه يتلفهم، بل يتركون وشأنهم فبدلت الأرض غير الأرض، وصارت المماليك السلطانية أرذل الناس، وأدناهم قدرا، وأخسهم، وأشحهم نفسا، وأجهلهم بأمر الدنيا، وأكثرهم إعراضا عن الدين، ما فيهم إلا من هو أزنى من قرد، وألص من فأرة، وأفسد من ذئب، ولا جرم أن خربت أرض مصر والشام من حيث يصب إلى مجرى الفرات بسوء إيالة الحكام، وشدة عيب الولاة، وسوء تصرف أولي الأمر".
=============================
ممـيزات الممـاليك:بسبب كونهم غرباء عن أهل البلاد، ولخضوعهم لتربية خاصة أعدتهم إعداداً ثقافيا وعسكـريا، ليكـونـوا جنـودا وحكـاما وسياسيين، يتولون الوظائف العليا حسب الكفاية الشخصية في المجتمع دون اعتبار لنشأتهم الأولى، فقد عاشوا كطائفة منفصلة عمن حولهم، ولم يختلطوا إلا نادرا بالسكان المحليين من مسلمين ونصارى، ولم يتزاوجوا معهم إلا فيما ندر.
كما احتكروا الجندية عليهم، بل بالغوا في ذلك حتى جعلوها وقفا على المماليك الصغار الذين يجلبون حديثا، ولم يسمحوا لأبناء المماليك الكبار من الانخراط فيها، بل قصروهم على الوظائف الإدارية والكتابية.
ورغم اختـلاف أصول مولـدهم، "انقسـامهم حسب خشداشياتهم وسادتهم إلى أحزاب متطاحنة، فإنهم كانوا يجتمعون ويتماسكون لمواجهة ا الأخطار المشتركة التي يتعرضون لها من قبل أهل البلاد من مصريين وشاميين أو من المغول أو الصليبيين.
وكانوا يتعلمون القرآن الكريم والفقه الإسلامي وينشؤون
- في الغالب- تنشئة إسلامية ويعلمون أن التحلي بالأخلاق الإسلامية يكسبهم ثقة العامة، فكان بعضهم يتظاهرون بالصلاح والتقوى، ويقدمون على بناء العمائر الدينية من مساجد وتكايا ومدارس، بينما يمارس بعضهم في خلواتهم أشد أنواع الفسق والفجور، ولم يكونوا يتحرجون من الانتساب إلى مشتريهم الأول أو أستاذهم مثل الصالحي، والمعزي، أو يلحقون بأسمائهم ما يدل على أثمانهم التي بيعوا بها مثل الألفي.
وكان المملوك شديد الوفاء لسيده أو أستاذه أو رابطته مع زملائه الذين تربوا لدى سيد واحد
(الخشداشية).
========================================
-----------------------------------------
قيام دولة المماليك البحريـة
648_658 هـ (1250- 1260م)في قمة الهجمية الصليبية- التي تمثلت في الحملة السابعة التي قادها لويس التاسع ملك فرنسا ضد مصر عن طريق دمياط- وخلال انشغال الملك الصالح نجم الدين أيوب
بالـدفاع على المنصـورة- التي وصـل الصليبيون إليها إلى بعض أنحائها بعد أن فر أمام هجمتهم بنو كنانة وبعـض المماليك- وقع الملك الصالح مريضا ولم يلبث أن توفى بعد مرض عضال.
وهنا ظهرت شخصية وعبقرية زوجته شجر الدر، التي أدركت مدى الخطر المحدد بالمسلمين، إذا أنّ علم الجيش والعامة بخبر موت السلطان، محل شأنه أن يوقع الوهن في العزائم، ويثير الأحقاد والمطامع الكامنة في نفوسهم وأن يطمع الصليبيين فيهم، فقامت بإخفاء خبر موته، وأرسلت سرا وعلى عجل تستدعي ابنه تورانشاه من حصن كيفا بأطراف العراق ليتولى عرش والده.
وخلال هذا الوقت تبدت بطولة الأمراء المماليك، فتصدىَ بيبرس البندقداريَ ومعه فرقة من المماليك البحريين الصالحين للصليبيين، فشن عَليهم هجوما من خارج المنصورة، وطردهم من بعض نواحيها ثم لاحقهم الأمير أقطاي- القائد العام للجيش- مستعملا النار الإغريقية حتى قرروا الهروب إلى دمياط.
وعندمـا وصـل تورانشاه بن السلطان الملك إلى صالـح إلى مصر عام 647 هـ(.125م) ولي السلطة دون معارضة، فكان من أول أعـماله أن حاصر الصليبيين وحاد بينهم وبين وصول المدد إليهم عن طريق دمياط، وقطع عليهم طريق العودة. وعندما اضطر الملك لويس التاسع بسبب حراجة موقفه إلى طلب الهدنة، ولكن المصريين رفضوا طلبه، وعندئذ حاول التسلل ليلا والانسحاب تحت جنح الظلم، فلم تفلح حيلته، حيث إن المسلمين قد علموا بالأمر فاستعدوا لإفشاله وطاردوا الصليبيين حتى فارسكور، وقتلوا منهم خلقا كثـيراً بلغ أكثر من ثلاثين ألفا، وسقط الملك نفسه أسيرا، فسجنه المسلمون في دار ابن لقمان بالمنصورة، وكلفوا الطواشي صبيح بحراسته.
وظل الملك لويس التاسع في أسره حتى أخلى المسلمون سبيله مقابل انسحاب الصليبيين من دمياط ودفع مبلغ طائل من المال فدية لنفسه وتعويضا للمسلمين عما خسروه في هذه الحرب، ومقابل إطلاق أسرى المسلمين في مصر والشام وإطلاق سراح أسر ى الصليبين وغير ذلك مما سنذكره في حينه.
وبذلك تم فشل هذه الحملة المسعورة وذلك بفضل اللّه، ثم فرسان المماليك كاقطاي وبيبرس الذين سماهم ابن واصل (داوية الإسلام) إعجابا منه بشجاعتهم.
-------------------------
مقتل السلطان تورانشاه بن الملك الصالح نجم الدين أيوب:لم يكن تورانشاه بالشخص المناسب فكان سيئ التدبير غير مستقيم الأخلاق، مفتقرا للمعارف والأنصار من المماليك والمصريين على السواء، لأنه قضى معظم حياته في حصن كيفا، وقد وصفه ابن الجوزي بأنه "كان سيئ التدبير والسلوك ذا هوج وخفة".
وقد دفعه ندماؤه الذين كانوا لا ينفكون عن تذكيره بأنه ليس ملكا إلا بالاسم، وأن السلطة الفعلية بيد زوجة أبيه شجر الدر والمـماليك، إلى الإساءة للمماليك الذين عليهم جل اعتماده، كبيبرس وأقطاي ورفاقهم، فأبغضوه وصاروا يخشون غدره ويتحينون فرصة القضاء عليه.
ولم يحفظ جميل شجر الدر التي أخذت له البيعة، واستدعته من مقره البعيد، وولته السلطة، فاتهمها بإخفاء أموال كانت لأبيه، حتى اضطرت لمعاداته ومغادرته إلى القدس هربا من مضايقاته، ثم لم تلبث أن عادت وجعلت تتصل بأنصارها من المماليك البرجية المعـادين لتورانشـاه، فقاموا بمهاجمته وهو في معسكره في فارسكور، وذلك في 29 محرم عام 648 هـ (1250م) مما اضطره لإلقاء نفسه في البحر من فوق برج خشبي كان قد التجأ إليه، فحرقوه عليه بعد أن قذفوه بالسهام، فـمات جريحا غريقا حريقا، دون أن تنفعه استعطافاته وصياحه
"ما أريد ملكا، دعوني أرجع، خذوا ملككم ودعوني أعود إلى حصن كيفا" ولكنهم لم يلاقوا بالا لأقواله وقالوا:
"بعد جرح الحية لا ينبغي إلا قتلها"
وقيل إنه حاول الاستنجاد بأبي عز الدين رسول الخليفة العباسي، الذي كان معه في المعسكر فصاح:
"يا أبا عز أدركني"
ولكن أبا عز الدين لا يملك أن يفعل شيئا تجاه هؤلاء القادة الغاضبين.
وقيل: بقيت جثته على شاطئ النيل ثلاثة أيام، ثم دفنت مكانها وقيل: بل كشف عنها الماء بعد ثلاثة أيام، فنقلت إلى الجانب الآخر وذلك بجرها في الماء بصنارة من قبل شخص راكب في مركب كـما يجر الحوت.
========================
حكم شجر الـدر:
:كان هم القادة المـماليك التخلص من السلطان تورانشاه قبل أن يتخلص منهم، ولذلك لم يفكروا فيمن سيولونه الملك من بعده، لهذا ففي اللحظة التي قتلوه فيها، وجدوا أنفسهم في حيرة من أمرهم، حيث إن المتطلعين لهذا المنصب، من قادة المماليك كثيرون، ولكن أهل مصر والملوك الأيوبيين في الشام لم يكن من السهل أن يتقبلوا جلوس مملوك علىَ عرش مصر، لهذا قرروا أن يولوا شجر الدر (أم خليل) فنصبوها سلطانة على مصر في الثالث من صفر عام 648 هـ السابع من مايو آيار 1250 هـ، في ذروة احتفال مصر بهزيمة لويس التاسـع ملك فرنسا وحملته الصليبية السابعة، ومغادرتهم لدمياط، ولقبوها باسم "الملكة عصمة الدين شجر الدر والستر العالي والدة الملك خليل" ودعواها على المنابر، وكانت علامتها "والدة خليل" كـما كان نص الدعاء لها على المنابر: "احفظ اللهم الجهة العالية الصالحية ملكة المسلميـن، عصمة الدنيا والدين، أم خليل المستعصمية، صاحبة الملك الـصالـح" كـما نقشـوا على السكة "المستعصمية الصالحية، ملكة المسلمين، والدة خليل، أمير المؤمنين".
وعينوا عز الدين أيبك الجاشنكير الصالحي المعروف بالتركـماني أحد أمراء البحرية من الصالحية أتابكا في ربيع الآخر سنة 648هـ، ويبدو آن هذا التعيين لم يكن لأن أيبك كان أقوى الأمراء وإنما لتجنب حلول أقطاي في هذا المركز لما كان الأمراء يخشونه من قوته وتسلطه.
لقد اشتهرت شجر الدر بالدهاء حتى وصفها ابن اياس بأنها "صعبة الخلق، قوية البأس، ذات شهامة زائدة، وحرمة وافرة، سكرانة من خمرة التيه والعجب" (7) وقد سبق وبينت مقدرتها الإدارية في إخفاء موت زوجها الملك الصالح بحجة مرضه، حتى لا ينخذل المسلمون أمام الصليبيين، وكيف قامت بنقله إلى القاهرة ودفنته سرا في قلعة الروضة، في حين أرسلت تستدعي أبنه تورانشاه من حصن كيفا، وحال حضوره سلمت إليه السلطة.
كان أول ما قامت به شجـر الـدر بعـد تسلمهـا السلطة أن صفت المـوقف مع الصليبيين، ففاوضت لويس التاسع ملك فرنسا، وقائد الحملة الفاشلة، واتفقت معه على رحيله من مصر وتسليم دمياط، وذلك في يوم الأحد الرابع من صفر 648 هـ الثامن من مايو 1250 م، ونص هذا الاتفاق على أن ينسحب لويس من دمياط ويردها إلى المصريين، وأن يطلق جميع أسرى المسلمين، وأن يتعهد بألا يعود لمهاجمة سواحل بلاد الإسلام مرة أخرى، كما يدفع لها ثمانمائة ألفا دينار فدية لنفسه وللأسرى الصليبيين، وعوضا عما أتلفه في دمياط، ومقابل ذلك يتعهد المسلمون برعاية الجرحى من أسرى الصليبيين، وقيل أيضاً مقابل أن يحافظوا على بعض معدات الصليبين التي سيضطرون لإبقائها بمصر إلى أن يتمكنوا من نقلها، وجعلت مدة الاتفاقية عشر سنوات .
ورغم كل ذلك فقد اضطربت الأمور في مصر عامة والقاهرة خاصة، وذلك احتجاجا وأنفـة من حكم امرأة، وعمت الفوضى القاهرة، مما اضطر شجر الدر إلى الأمر بإغلاق أبوابها منعا لانتشار خبر هذه الاضطرابات.
وزاد من خطورة هذا الوضع انضمام علماء المسلمين إلى العامة في هذه المعارضة، وعلى رأسهم الشيخ عز الدين عبد السلام، الذي كتب كتابا حوله ما قد يبتلي به المسلمون بولاية امرأة. كـما لم يوافق الخليفة العباسي على توليها السلطة، وعير أهل مصر بذلك قائلا في رده على رسالة من المماليك يطلبون فيه تأييده لحكمها "إن كانت الرجال قد عدمت عندكم فأعلمونا حتى نسير لكم رجلا".
--------------------------
تولي الأتابك عز الدين أيبك السلطة:وعند ذلك رأى المماليك البحرية الصالحية المؤيدين لشجر الدر أنه لابد لهم من حل لهذا الموقف وقالوا:
"لا يمكننا حفظ البلاد والملك لامرأة، ولابد من إقامة رجل للمملكة تجتمع الكلمة عليه".
وزاد من اقتناعهم بهذا الرأي، خوفهم من خطر الناصر يوسف الأيوبي صاحب حلب، الذي استغل هذا الموضوع لصالحه ورأى فيه فرصة سانحة للاستيلاء على مصر، فقام بالاستيلاء على دمشق وبعض نواحي الشام، مما أخاف المماليك فسارعوا إلى تزويجها من الأتابك عز الدين أيبك التركماني أتابك العسكر، وتنازلت له شجر الدر عن السلطة بعد ثمانين يوما من حكمها. فأصبح معز الدين أيبك سلطانا- ولو بالاسم- حيث إن شجر الدر "كانت هي المسئولة عنه في كل أحواله ليس له معها كلام.
وقد سبق أن ذكرت أن اختيار المماليك له لهذا المنصب كان لاعتقادهم بضعفه مقارنة بأقطاي وبيرس، وأنه سيكون من السهل عليهم عزله متى شاءوا.
وقد خاب ظنهم فيه، حيث أثبت أيبك أنه ليس بالحاكـم الألعوبة، فمنذ بداية عهده بادر إلى اغتيال أكـبر منافسيه وهو خوشـداشة أقطايى الجمدار عام 652 هـ (1254م) وساعده في ذلك كل من قطز وبهادر وسنجر وعدد من المـماليك المعزية، واضطر خشداشية أقـطاي من المـماليك إلى الفـرار، ومنهم بيبرس البندقـداري وقلاوون الألفي، حيث لم يستطيّعوا مغادرة القاهرة التي كانت موصدة الأبواب، إلا بحرق إحدى الأبواب التي ظلت تسمى بالباب المحروق، وتابعوا هربهم نحو الشام وتفرقوا ما بين دمشق وحلب والكرك ودولة السلاجقة.
وعند ذلك قام أيبك بمصادرة أموال المماليك الفارين، وتجريد من بقي منهم في مصر من سلطاتهم، ولم يفلح الملك الناصر يوسف صاحب حلب ودمشق والمنافس السابق لشجر الدر في مساعدتهم، فاضطروا للتوجه إلى المغيث عمر في الكرك. ولإبطال حجة الملوك الأيوبيين في الشام، ومطالبتهم بعرش مصر، قام أيبك بتولية الطفل الأشرف، موسى الأيوبي السلطنة وهو في السادسة من عمره، وجعله شريكا له في الحكم، فخطب باسمهما على المنابر وسكت العملة باسمهما.
ولمـا لم تنطِل حيلته هذه على الناس، التجأ أيبك إلى الاستعانة بالخليفة العباسي المستعصم باللّه في بغداد، ونصب نفسه نائبا له على مصر، ثم أخذ في الاستعداد للتصدي للملك الناصر يوسف، الذي كان قد كاتب الملك لويس التاسع في عكا، عارضا عليه التعاون ضد أيبك مقابل تسليمه القدس للصليبيـن- وكانت تحت حكم الأيوبيين-. ولما علم أيبك بهذه المفاوضات أرسل إلى لويس التاسع مهددا بقتل أسرىَ الصليبيين الذين لديه، وواعدا إياه إن رفض عرض الناصر أن يقوم بتعديل اتفاقية دمياط لإعفائه من نصف الفدية المتفق عليها، وطلب منه بدوره أن ينضم إلى جانبه، فرد عليه لويس بأنه قرر الوقوف على الحياد بينه وبن الناصر.
وتقدم الملك الناصر حتى العباسية بين مدينتي بلبيس والصالحية 649 هـ- 1251م فهزمه أيبك بسبب انحياز مماليكه العزيزية إلى المـماليك، ولاحقه حتى الشام، واتفق أيبك مع لويس التاسع على أن يساعده ضد الناصر يوسف مقابل تسليمه القدس، ولكن هذا الاتفاق لم ينفذ، حيث تدخل الخليفة العباسي بين الناصر وأيبك 651 هـ (1253م) لمنع تسليم القـدس للصليبيين حيث أرسل رسوله الشيخ نجم الدين البادورائي فأصلح بين صاحب مصر وصاحب الشام، وأيضا لإحساسه- أي الخليفة- ببداية الخطر المغولي الذي داهم الخلافـة من الشرق. واتفق على أن تكـون مصر وجنوب فلسطين بما فيها غزة والقدس للمماليك.
ثم دب الخلاف بين أيبك وزوجته شجر الدر، بسبب تسلطها وشدة غيرتها عليه، فحاول أن يتزوج من ابنة بدر الدين لؤلؤ الأتابكي صاحب الموصل، نكاية بها خصوصا وقد شعر بتآمرها مع أنصارها من المـماليك البحرية عليه وعلى مماليكه المعزية .
وعندما علمت شجر الدر بخطة هذا الزواج، ازدادت معارضتها وتآمرها مع المماليك البحرية وضوحا وتحديا، مما دفعه لسجن من بقي من هؤلاء المماليك في القاهرة، متحديا بذلك شجر الدر، مما جعلها تقرر قتله، وتتصل سرا بالملك الناصر في دمشق تعرض عليه التعاون معها في ذلك، وأن يتزوجها ويشركها معه في السلطة مقابل تسليمه مصر، ولكن الناصر لم يتحمس لهذا العرض ظانا أنه خدعة منها.
وعَلم بدر الدين لؤلؤ بأخبار هذا الاتصال بين شجر الدر والناصر يوسف، فقام بإعلام أيبك به، فاحتاط لنفسه من غدر شجر الدر، وقرر في طويته قتلها، ولم تلبث شجر الدر أن سبقته في تنفيذ عزمها بأن تحايلت عليه، فاستدعته إلى القلعة- بعد أن كان هجرها إلى مناظر اللوق- ودست إليه خمسة من غلمانها فقتلوه في الحمام، وذلك في 23 ربيع الأول 655هـ (1257م).
>