مجلة البيان
http://www.albayan-magazine.com/bayan-240/bayan-20.htm
القرامطة في الخليج العربي
ظروف نشأتهم، تعاليمهم، أساليبهم، كيانهم
أ.د. محمد امحزون
لا بد من الإشارة ها هنا إلى أن الحركة القرمطية من الحركات الباطنية المتطرفة التي لم تدرس في عصرنا الدراسة الموضوعية؛ التي تلتزم جانب الإسلام وتعالج هذا الموضوع بأمانة وتجرد، بعيداً عن الغرض والهوى والإسقاط التاريخي.
فالباحثون ذوو الاتجاه الماركسي لم يدّخِروا جهداً في كيل المديح لهذه الحركة الهدامة والثناء عليها، والدعوة إلى اتباع نهجها وفاءً لها وإيماناً بأفكارها؛ لأنها قضت في زعمهم على التميز الطبقي، وأنصفت الفقراء والعمال والفلاحين.
ونذكر على سبيل المثال كتاباً ألفه أحد الباطنين سماه «الحركات السرية في الإسلام»، وخص القرامطة بفصل عنوانه: (القرامطة: تجربة رائدة في الاشتراكية)(1)، وقال عنهم كلاماً أكثر مما يقوله أبو سعيد الجنّابي عن نفسه. وهذه جرأة لا يحمد عليها مؤلف الكتاب الدكتور محمود إسماعيل، أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة عين شمس بالقاهرة.
وهؤلاء قد اتبعوا المستشرقين في افتراءاتهم؛ إذ يرى فان فولتن وبيكر بأن الإسلام لم يكن في أدواره الأولى ديناً بقدر ما كان علامة امتياز للأرستقراطية المنتصرة والمذهب الرسمي للدولة التي تمثله. وعلى هذا فإن الشيعة الثورية (القرامطة) كانت النتيجة الطبيعية في وسط ثيوقراطي لثورة الطبقات المظلومة؛ الفارسية والسامية على السواء(2).
إن الدارس للحركة القرمطية يلاحظ أنها عملية مرحلية لها أهداف معينة في تلك الفترة، وتعد خطوة من خطوات الدعوة الإسماعيلية التي كانت تتحرك وفق مخطط عملي مدروس ومنظم، يقوم على خداع الجماهير باستغلال عاطفتهم نحو آل البيت، وتعتمد على التنظيم السري والعسكري، وهدفها: إحياء أمجاد فارس وإبطال حقيقة الإسلام.
والناظر في أوائل زعماء ودعاة القرامطة يجد أنهم من الفرس: كأبي سعيد الجنابي ـ وهو من أهل جنابة بفارس ـ وزكرويه بن مهرويه، وذكيرة الأصفهاني، والفرج بن عثمان، ودندان، وعبد الله بن ميمون القداح وغيرهم(3).
أما إذا بحثنا في مضمون حركة القرامطة فسوف نجد أن هذه الحركة استفادت من ظروف البيئة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في سواد العراق؛ حيث كان منظمها الأكبر «حمدان قرمط» قروياً عارفاً بالمساوئ التي يشكو منها أهل السواد. ولا يمكن فهم روح الحركة إلا بعد معرفة:
أ ـ ما المبادئ التي بشرت بها؟
ب ـ ما الجماعات التي انتظمت لها؟
* ظروف نشأة حركة القرامطة:
جدير بالإشارة أن إلقاء الضوء على أحوال العصر وظروف نشأة هذه الحركة سيمكننا ـ بلا ريب ـ من الإجابة على السؤالين المهمين السابقين.
* الحالة السياسية:
كان للضعف الذي ألمَّ بالخلفاء العباسيين بعد موت الواثق سنة 232هـ، وسيطرة الأعاجم عليهم وضياع نفوذ الخلافة، الأثرُ الكبير في كثرة الانفصالات عن الدولة العباسية، واستقلال بعض الأسر المشهورة؛ كالصفاريين والسامانيين والعلويين واليعفريين والطولونيين(4). ولم يبقَ للعباسين في كثير من الأقاليم سوى الدعاء لهم يوم الجمعة والعيدين ونزر يسير من الهدايا(5). كما أثار الزنج ـ وهم طائفة من عبيد إفريقية ـ القلق والرعب في حاضرة الخلافة العباسية، وكان مسرح ثورتهم الجامحة العنيفة التي دامت أكثر من أربع عشرة سنة المستنقعاتُ الممتدة بين البصرة وواسط. وقد كلفت هذه الثورة الدولة العباسية كثيراً من الجهود والأموال والأرواح(6). وظهر القرامطة في سواد العراق والبحرين؛ حيث أعانهم على ذلك تشاغل الخليفة العباسي بفتنة الزنج(7)، وظهر ابن حوشب في اليمن حيث نشر دعوة المهدي، وظهر أبو عبد الله الشيعي الذي نشر الدعوة الفاطمية في المغرب(8).
* الحالة الاجتماعية والاقتصادية:
أما الحالة الاجتماعية والاقتصادية فإن المجتمع العباسي في هذه الفترة كان ينقسم إلى ثلاث طبقات رئيسة:
أ ـ الطبقة العليا: وتشـتمل على الخلفاء والوزراء والقادة والولاة، ومن يلحق بهم من الأمراء وكبار التجار وأصحاب الإقطاع.
ب ـ الطبقة الوسطى: وتشتمل على رجال الجيش وموظفي الدواوين والتجار والصناع(9).
ج ـ الطبقة الدنيا: وتشمل أغلبية الناس من الزراع وأصحاب الحرف الوضيعة والخدم والرقيق(10).
وفي خضم هذه الظواهر الاجتماعية والاقتصادية التي طبَعَها ما روي من الترف والمجون والفساد والفقر والجهل، وما صاحب ذلك من دجل وخرافة وشعوذة وسحر وطلاسم وتنجيم(11)، ظهر القرامطة واستغلوا هذه الأجواء المشحونة لإذكاء نار الفتنة بين الناس، مذكرين إياهم ما يلقونه من ظلم وعنت، وأن ساعة الخلاص من الظلم والاضطهاد قريبة، مما جعل هؤلاء إزاء هذه الحالة الاقتصادية والاجتماعية السيئة على أتم استعداد للخروج على ولاة أمورهم.
وكذلك انتشرت هذه الدعوة بين أهل الحرف وعوام المدن الذيـن كان مســتوى معيشــتهم مـتـواضعاً وظـلوا جـهـلـة لا يفهمون الشريعة، ويرون أوامرها يمكن تركها متى تطلّبت المصلحة ذلك. وهذا الجهل جعلهم طعمة سهلة للدعوة القرمطية الماكرة، خاصة في مدن الأحساء والقطيف والبحرين حيث استمرت دعوة حمدان قرمط؛ إذ أنشأ أحد دعاته وهو الحسين الجنابي دولة في الخليج، مطبقاً روح تعاليم سلفه بكل حماس، مستغلاً حالة التذمر من الفقر والفاقة التي كانت سائدة في تلك الجهات، خاصة بين أهل البادية الذين كان فقرهم مضرب الأمثال.
* تعاليم القرامطة وعلاقتهم بالباطنية:
من الثابت أن الحركة القرمطية فرقة باطنية من جماعات الدعوة الإسماعيلية؛ حيث من المسَلَّمْ به وجود علاقات عضـوية أسـاسية بين الفئتين في مجال العقائد والأفكار(12)، بينما مر تاريخ العلاقات السياسية بينهما بأطوار تباينت فيه المواقف ووصلت إلى حد المواجهات المسلحة في بعض الأحيان(13).
ومعلوم أن من أسماء الإسماعيلية التي اشتهرت بها «الباطنية»؛ ذلك لأنها قالت بالتأويل وبوجود علم ظاهري عام وعلم باطني خاص. وعلى هذا الأساس يكون معنى القرامطة هو الباطنية؛ لأنهم ادعوا أن: «لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري مجرى اللب من القشر، وأنها تُوهم الأغبياء صوراً، وتُفهم الفطناء رموزاً وإشارات إلى حقائق خفية، وأن من تقاعد عن الغوص على الخفايا والبواطن متعثر، ومن ارتقى إلى علم الباطن انحط عن التكليف واستراح من أعبائه»(14).
* تعريف القرامطة:
ومن أفضل ما قيل في تعريف القرامطة ما أورده ابن العديم في كتابه (بغية الطلب) حيث قال: «... زعموا أنهم يرجعون إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر بن علي، ونسبوا إلى قرمط؛ وهو حمدان بن الأشعث، كان بسواد الكوفة، وإنما سمي قرمطاً؛ لأنه كان رجلاً قصيراً وكانت رجلاه قصيرتين، وكان خطوه متقارباً؛ فسمي بهذا السبب قرمطاً.. وذكر بعض العلماء أن لفظة قرامطة: إنما هي نسبة إلى مذهب يقال له: (القرمطة) خارج مذاهب الإسلام، فيـكون على هـذه المقـالة عزوُه إلى مذهـب باطـل لا إلى رجل»(15).
ثم إن الرأي الأخير يتوافق مع ما ذهب إليه بعض الباحثين المعاصرين من القوم بأن كلمة «قرمطة» هي كلمة أرامية تعني العلم السري(16).
وقد استغل القرامطة وغيرهم من الباطنية الأوضاع الاجتماعية المتدهورة، والأحوال الاقتصادية المزرية، والنزاعات السياسية، فبثوا فكرة الإمام المهدي المنتظر الذي سيحرر الناس من الظلم والحيف ومن كافة الأغلال والقيود.
وعن طريق هذه الفكرة تغلغل تأثيرهم الموجه إلى محيط العامة وجميع الفئات المهمشة اجتماعياً، خاصة في الأرياف، وبعثوا في نفوسهم الأمل بدنوِّ النصر وقرب ساعة التحرير، وما ذلك إلا وسيلة لاستقطابهم وجذبهم إلى عقائدهم وأفكارهم.