القرن 16 - الأمراض الأوروبية:
إن أكثر ما أثر في سكان أمريكا الأصليين خلال احتكاك الأوروبيين بهم كانت هي الأمراض التي نقلها الأوروبيون إليهم التي لم يملك الهنود مناعة ضدها، مثل: مرض الجدري والحصبة والتيفوئيد والزهري. وخلال فترة جيل واحد من من بدء هذا الاحتكاك انقرض هنود الكاريب (سكان جزر الأنتيل ، وينسب إليهم البحر الكاريبي). وأما القبائل الأخرى فقد فقدت حوالي 90 إلى 95 بالمائة من تعداد سكانها في أول مائة سنة من مجيء الأوروبيين إلى "العالم الجديد".
---------------------------------------------------------------
1511- اتصال الإسبان بالهنود:
تعتبر المناطق التي احتلها الإسبان في "العالم الجديد" خلال عصر "الاستشكافات" من أكثر المناطق تدميراً فيما يتعلق بسكانها . فكثير من المؤرخين وصفوا هدف الإسبان في العالم الجديد بأنه بحث من أجل "الذهب ، والمجد ، والإله" (ويعبر عنها باللغة الإنجليزية بالجيمات الثلاث لأنها هذه الكلمات كلها تبدأ بحرف الجيم: gold, glory and God).
فمثلاً ، ما إن جاء عام 1511 حتى كان الإسبان قد استوطنوا جزيرتي كوبا وإسبانيولا في البحر الكاريبي، وكانوا متلهفين لاستكشاف اليابسة (في جسم القارة الأمريكية) للبحث عن مدينة "إل دورادو" الأسطورية: المدينة الذهبية (El Dorado)، للذهاب إلى إمبراطورية الآزتك (الحقيقية) في عمق جبال المكيسك.
وعندما ذهب الإسبان إلى منطقة اليوكاتان Yucatan (وهي شبه جزيرة تقع في الجهة الجنوبية الشرقية من المكسيك حالياً، وفيها ازدهرت حضارة المايا المعروفة) انتهت مغامرتهم تلك بقتال دموي مع المايا، ولم تثمر بالحصول على أي ذهب أو كنوز.
---------------------------------------------------------------
1513- المستكشفون الإسبان للعالم الجديد:
في الحقيقة ، يتحرج المرء من إطلاق كلمات مثل "مستكشف " أو ما يشابهها على الأوروبيين الذين جاؤوا إلى العالم الجديد ، وخصوصاً الإسبان ، فقد كانوا أبعد الناس على المنهاج العلمي أوحب المعرفة أوالاستكشاف ، بل أصدق كلمة يمكن أن يوصفوا بها هي أنهم ببساطة مجموعة من "المرتزقة" أفسدوا في الأرض وقتلوا العباد والدواب ، ولم يسلم من وحشتيهم أحد ، لا النساء ولا حتى الرضّع . ولم أجد خلال قراءاتي لعدة تواريخ أرحم من المسلمين عندما كان يفتحون المدن والبلاد ، فما كان همهم المال والغنيمة ، بل هداية الناس وتحريرهم من ظلم الظالمين وطغيان الكافرين ، فرحم الله ذلك الجيل العجيب الذي لم تعهده البشرية في تاريخها كله .
على كل حال ، نتابع الآن: من "المستكشفين" الإسبان الذي لحقوا كولومبس (1492) إلى العالم الجديد كان (خوان بونسه دي ليون ) المولود حوالي عام 1460 كان بحاراً مع كولومبس في رحلته الثانية إلى الأمريكتين عام 1493، ولم يرجع معه إلى إسبانيا ، بل أقام في سانتو دومينغو في جزيرة إسبانيولا. عُيِّن حاكماً على أحد أقاليم الجزيرة . سمع أن هناك ذهباً في جزيرة بورنِكْوِن (بورتو ريكو) فغزاها واحتلها بوحشية وادّعاها للتاج الإسباني ، ثم عُين حاكماً على نفس الجزيرة .
في عام 1513أبحر شمالاً إلى أن وصل سواحل فلوريدا، ثم أكمل طريقه شمالاً حتى وصل مكان مدينة سان أوغسطين . وكان قد خاض عدة حروب ضد السكان الأصليين لجزر البحر الكاريبي .
هلك في شهر يوليو عام 1521، ودفن في سان خوان في جزيرة بورتو ريكو .
ونود أن نذكر هنا أن بونسه دي ليون هذا كان ممن حارب المسلمين في شمال إفريقية.
وهناك فاسكو نُوَاس Vasco Nuas الذي كان يبحث عن المدينة الذهبية (إل دورادو) (لاحظوا سعي هؤلاء "المستكشفين" الحثيث في بحثهم عن الذهب، فما أن يسمعوا بمكان فيه ذهب – وقد لا يكون الخبر صحيحاً – إلا وكانوا أول المرتحلين إليه! وهل لكم أن تتخليوا "مدينة من ذهب"، فما من الإسبان أن يضيعوا فرصة ، ولو كانت خيالية!).
وأما ( هرناندز كورتس ) Hernando Cortes فشخصية متميزة بين "المستكشفين". كان على يديه سقوط المكسيك عام 1519 وبالتالي سقوط مملكة الآزتك .
وقد فصَّل مرافق كورتس المدعو برنار دياز دي كاستيلو في كتابه "غزو إسبانيا الجديدة" (كانت المكسيك تدعى إسبانيا الجديدة!) عن الأحداث التي أدت إلى انهيار كيان الآزتك ، وهو كتاب جدير بالقراءة فيه تفصيل عن حياة الآزتك وكيف انهارت مدينتهم "تينوكْتيتْلان"– ولا أدري إن كان قد ترجم هذا الكتاب إلى العربية أم لا!
وشخصية أخرى لا تقل وحشية ودهاءً عن كورتس هي شخصية ( فرانسسكو بيزارو Francisco Pizarro):
ولد بيزارو عام 1478، وقضى وقتاً لا بأس به منتقلاً بين شواطئ أمريكا الجنوبية المطلة على المحيط الهادي . "اكتشف" بيزارو مملكة الإنكا Inca واحتلها بسرعة وبوحشية مستولياً على كميات هائلة من الذهب والفضة وغيرها من المعادن الثمينة بعد القبض على ملكها "آتاولبا"، وهو آخر ملوك الإمبراطورية. وتذكر كتب التاريخ كيف قبض بيزارو على آتاولْبا وهدد شعبه بقتله إن لم يجمع له ذهباً وفضة.
واضطر الملك – حفاظاً على حياته ومصدقاً بيزارو- أن يجمع له ذهباً وفضة ، فجمع له وملأ منهما حجرة كاملة. وطمع بيزارو أكثر، وظن أن آتاولبا يخفي كمية أكبر مما جمع له، فبدأ بتعذيبه ليقرّ بمكان الذهب والفضة ، ومات مقتولاً شنقاً على يد بيزارو.
بعد أن عاث بيزارو وجنوده فساداً في الأرض (البيرو) وترك دماراً في عاصمة إمبراطورية الإنكا، وكان تدعى كوسكو Cusco (ومازالت موجودة وتعتبر من أكبر المدن السياحية في البيرو) رحل إلى الساحل وأسس مدينة ليما التي أصبحت منذ ذلك الحين عاصمة للبيرو.
في عام 1541 اغتيل بيزارو على يد أتباع "بدرو دي المارغو" الذي كان يطمع أن يسيطر على ليما وكنوزها. وهكذا أصبح القاتل مقتولاً على يد قاتل آخر. ولله في خلقه شؤون، ولا يظلم ربك أحداً!
ومن "المستكشفين" الإسبان الأوائل للعالم الجديد كابيزا دي فاكا (1535) Cabeza De Vaca وفرانسسكو فاسكز دي كورونادو (1539-1542) حيث أن كلاهما استكشفا منطقة الجنوب الغربي من الولايات المتحدة. ودي فاكا كان مختلفاً عن بقية المستكشفين لأنه حملته لم تكن حملة عسكرية ولم يعتد خلال ترحاله على أحد من الهنود، إلا أنه كانت هناك مناوشات بينه وبين بعض القبائل الهندية التي التقاها في طريقه. وفي مرحلة من مراحل سيره كاد هو ورفاقه أن يهلكوا.
وقد ترك دي فاكا مذكراته عن رحلته الاستكشافية التي بدأت بسواحل فلوريدا بعد أن رمتهم أمواج البحر علىسواحلها ودمرت سفنهم هناك ، وانتهت بمكسيكوسيتي، وكتابه مطبوع تحت عنوان: Rélacion وهو كتاب ممتع وتقرأه وكأنك تقرأ لعالم مختص في الأنثروبولوجيا.
ولد دي كافا في الأندلس المفقود عام 1490 لعائلة نبيلة، وانخرط في الجيش – كعادة النصارى في ذلك الوقت بسبب حربهم مع المسلمين – وفي عام 1527 غادر البلاد مع البحرية الإسبانية الملكية وفي نيته احتلال قارة أمريكا الشمالية. بعد أن دمر أسطوله إعصار بحري مقابل شواطئ كوبا ، استطاع دي كافا أن يؤمّن سفينة حيث انطلق بها إلى فلوريدا وحين نزوله مع رفاقه إلى اليابسة الإسبان الأرض – التي كان تسكنها قبائل هندية – أنها ملك للتاج الإسباني (!) كعادتهم في استيلائهم على كل أرض تطؤها أقدامهم.
وحدث أن انقسمت الحملة إلى فريقين ، وكان قرار انقسامها إلى برية وبحرية ضربة قاسية لأفرادها، حيث لم تلتق القوات البرية بالقوات البحرية بعد ذلك.
استطاع دي فاكا ومن معه من الرجال – بعد عذابات - أن يبحروا راجعين إلى جزيرة كوبا ، لكن العواصف جرتهم وقذفتهم إلى القرب من جزيرة "كالفستون" الواقعة جنوبي مدينة هيوستن الحالية في ولاية تكساس.
ومن هناك انطلق دي كافا ومن نجا من رفاقه براً، فالتقى بعدد من الهنود سكان الجزيرة وغيرهم. وقد بقي هو ورفاقه في حالة يرثى لها من الضعف والجوع والعري. ودخل عليهم عام 1532وكان قد بقي منهم حياً فقط دي فاكا ودي كاستيلو مالدونادو،ودي كارانكا، وعبد إفريقي اسمه مصطفى – إستيفان – ويبدو أنه كان من عبيد المغرب الذين أسروا أو بيعوا. وأنه كان مسلماً، ولا يعرف عنه الكثير إلا أنه قتل على أيدي الهنود فيما بعد.
وقد تحوّل دي فاكا أثناء رحلته هذه من رجل عسكري يلهث وراء الشهرة والمال إلى رجل عادي يراقب بعينيه ما حوله ويتعامل مع الهنود الذين التقى بهم. وقد رأى بنفسه الوحشية التي كان يعامل بها الإسبان السكان الأصليين للبلاد، فعندما رجع إلى إسبانيا نشر كتابه (رلاسيون). بعد ذلك، خدم دي كافا في منصب الحاكم الإقليمي للمكسيك، لكنه اتهم فيما بعد بالفساد ، ربما بسبب تصرفه اللائق تجاه الهنود، فاضطر للعودة إلى إسبانيا حيث حوكم، وفي عام 1552 صدر إعفاء عنه أعطاه الفرصة حيث أصبح قاضياً في مدينة إشبيلية إلى أن مات سنة 1556 أو 1557.
وأما كورونادو فقد كان أكثر قسوة من دي فاكا وكان همه البحث عن مدينة سيبولا الأسطورية التي تحتوي ذهباً وفضة، ووصل في بحثه إلى ولاية كنساس حالياً في وسط الولايات المتحدة . لكن خاب أمله وعاد من حيث جاء إلى "إسبانيا الجديدة". وقد كتب كورونادو يوميات رحلته وهي مطبوعة بالإسبانية والإنكليزية وغيرها من اللغات.
خط مسير رحلة كورونادو في الجنوب الغربي من الولايات المتحدة]
----------------------------
وهناك أيضاً "مستكشف" يدعى هيرناندون دي سوتو (1541) استكشف ما بين فلوريدا ونهر المسيسبي.
استطاعت إسبانيا في تلك الأوقات أن تؤسس إمبراطورية في العالم الجديد قبل مائة سنة من تأسيس أول مستعمرة بريطانية في جميستاون / فرجينيا في عام 1607. وقد استخدمت إسبانيا الأموال التي جنتها في مستعمراتها الجديدة لتمويل العملية التي كانت تخوضها الكنيسة الكاثوليكية ضد حركة الإصلاح البروتستانية التي عصفت بأوروبا منذ 1517، ولتؤكد سلطتها عليها.
لقد نهبت إسبانيا أرض "العالم الجديد" من الذهب ما يقدر بـ200 طن، ومن الفضة 16 ألف طن، هذا كله كان له أثر في غناء إسبانيا وقوتها وطمع بقية الأوروبيين في الصراع على أمريكا، بل أثر هذا سلبياً على اقتصاد العالم الإسلامي – الذي كانت تسك نقوده من معدني الذهب والفضة – حيث هوت أسعارها في السوق مقابل إغراق السوق العالمية (أوروبا والعالم الإسلامي وقتذاك) بذهب وفضية رخيصي القيمة.
]