أمر السلطان ( صلاح الدين الأيوبي ) جيوشه أن ترتاح يستعدوا لفتح القدس, وطار في الناس الخبر, وعلموا عزم السلطان على ذلك فقصده العلماء والصالحون من أماكن عديدة تطوعًا, وجاؤوا إليه كجنود
وبدأت بشائر التحرير بزحف جيوش صلاح الدين نحو بيت المقدس الذي استمر 92 سنة تحت سيطرة النصارى الأوروبيين وضربت جيوش صلاح الدين الحصار المحكم على بيت المقدس .
وتذكر كتب التاريخ أن صلاح الدين عندما سار إلى بيت المقدس وصلته رسالة من أحد المأسورين في القدس فيها أبيات على لسان المسجد الأقصى:
يـــا أيـهــا الـمـلـك الــــذي --لمعـالـم الصلـبـان نـكــس
جــــاءت إلــيــك ظــلامـــة--تسعى من البيت المقدس
كـــل المـسـاجـد طـهــرت --وأنا على شرفـي منجـس
وبعد اشتداد الحصار على القدس طلب الصليبيون الأمان ونزل ملك بيت المقدس يتذلل للسلطان صلاح الدين ذلاً عظيمًا, فأجابهم صلاح الدين, ودخل المسلمون القدس ووفوا بالصلح المضروب مع النصارى, وشرعوا في تنظيف المسجد الأقصى مما كان فيه من الصلبان والرهبان والخنازير, وأعيد على ما كان عليه زمن المسلمين, وغسلت الصخرة بالماء الطهور وأعيد غسلها بماء الورد والمسك الفاخر, وأبرزت للناظرين, وقد كانت مستورة مخبوءة عن الزائرين, ووضع الصليب عن قبتها وعادت إلى حرمتها, وعفا السلطان صلاح الدين عن بنات الملوك ومن معهن من النساء والصبيان والرجال, ووقعت المسامحة في كثير منهم وشفع في أناس كثير فعفا عنهم, وفرق السلطان جميع ما قبض منهم من الذهب في العسكر, ولم يأخذ منه شيئًا مما يقتني ويدخر,
وكان رحمه الله كريمًا مقدامًا شجاعًا حليمًا وكان ذلك في بيت المقدس فقال: «لما تطهر بيت المقدس مما فيه من الصلبان والنواقيس والرهبان والقسس, ودخله أهل الإيمان, ونودي بالأذان وقرئ القرآن ووحد الرحمن, وكانت أول جمعة أقيمت في اليوم الرابع من شعبان, بعد يوم الفتح بثمان, فصف المنبر إلى جانب المحراب, وبسطت البسط وعلقت القناديل وتلي التنزيل, وجاء الحق وبطلت الأباطيل, وصفت السجادات وكثرت السجدات وأقيمت الصلوات, وأذن المؤذنون, وخرس القسيسون, وزال البؤس, وطابت النفوس, وأقبلت السعود, وأدبرت النحوس, وعُبِد الله الأحد الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ. وكبره الراكع والساجد, والقائم والقاعد, وامتلأ الجامع, وسالت لرقة القلوب المدامع, ولما أذن المؤذنون للصلاة قبل الزوال كادت القلوب تطير من الفرح في ذلك الحال, ولم يكن عيَّن خطيب فبرز من السلطان المرسوم الصلاحي وهو في قبة الصخرة أن يكون القاضي محيي الدين بن الزكي اليوم خطيبًا, فلبس الخلعة السوداء وخطب للناس خطبة سنية فصيحة بليغة, وذكر فيها شرف بيت المقدس, وما ورد فيه من الفضائل ووقد أورد الشيخ أبو شامة الخطبة في الروضتين بطولها
وكان أول ما قاله محيي الدين بن الزكي هو الآية القرآنية : "فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ".
ثم أورد تحميدات القرآن كلها, ثم قال: «الحمد لله معز الإسلام بنصره, ومذل الشرك بقهره, ومصرف الأمور بأمره, ومزيد النعم بشكره, ومستدرج الكافرين بمكره, الذي قدر الأيام دولاً بعدله من طله وهطله «يعني :الندى والمطر», الذي أظهر دينه على الدين كله, القاهر فوق عباده فلا يمانع, والظاهر على خليقته فلا ينازع, والآمر بما يشاء فلا يدافع, أحمده على إظفاره وإظهاره, وإعزازه لأوليائه ونصره أنصاره, حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر إجهاره, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد, الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد, شهادة من طهر بالتوحيد قلبه, وأرضى به ربه, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله رافع الشكر وداحض الشرك, ورافض الإفك, الذي أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وعرج به منه إلى السموات العلى, إلى سدرة المنتهى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى" مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى" وعلى خليفته الصديق السابق إلى الإيمان, وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان, وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القرآن, وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك, ومكسر الأصنام, وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان
فطوبى لكم من جيش ظهرت على أيديكم المعجزات النبوية, والوقعات البدرية, والعزمات الصديقية, والفتوحات العمرية, والجيوش العثمانية, والفتكات العلوية, جددتم للإسلام أيام القادسية والوقعات اليرموكية, والمنازلات الخيبرية, والهجمات الخالدية, فجزاكم الله عن نبيكم أفضل الجزاء, وشكرًا لكم ما بذلتموه من مهجكم في مقارعة الأعداء, وتقبل الله منكم ما تقربتم إليه من مهراق الدماء, وأثابكم الجنة فهي دار السعداء, فاقدروا –رحمكم الله- هذه النعمة حق قدرها, وقوموا إلى الله بواجب شكرها فله النعمة بتخصيصكم بهذه النعمة وترشيحكم لهذه الخدمة "
......... إلى آخر ما جاء في الخطبة.
--------------------
وبعد أن تم هذا الفتح العظيم توافد إلى السلطان الشعراء والعلماء والكتاب والمؤرخون ينثرون أمامة من بلاغة الشعر وومما ورد قصيدة الشاعر (أبو الحسن بن علي الجويني) المشهورة في تبجيل صلاح الدين وسلوكياته :
جنـد السمـاء لـهـذا المـلـك أعــوان --من شك فيهـم فهـذا الفتـح برهـان
هـذي الفتـوح فـتـوح الأنبـيـاء ومــالهـا-- سـوى الشكـر بالأفعـال أثمـان
أضحت ملوك الفرنج الصيدُ في يده --صيـدًا ومـا ضعفـوا يومًـا ومـا هانـوا
تسـعـون عـامًــا بـــلاد الله تـصــرخ --والإســلام أنـصـاره صــم وعمـيـان
فـالآن لبـى صـلاح الديـن دعوتـهـم --بـأمـر مــن هــو للمـعـوان مـعــوان
إذا طــوى الله ديــوان العـبـاد فـمـا --يُطـوى لأجـر صـلاح الـديـن ديــوان
------------------
وقال (محمد بن سعد ) نقيب الأشراف بالديار المصرية:
أتـرى منامًـا مــا بعيـنـي أبـصـر --القدس تفتـح والفرنجـة تُكسـرُ
ومليكهم في القيد مصفود ولم --يُر قبـل ذلـك لهـم مليـك يؤسـر
فُتح الشام وطُهر القدس الـذي --هو في القيامة للأنام المحشر
يا يوسف الصديق أنـت لفتحهـا --فاروقهـا عـمـر الإمــام الأطـهـر
ولأنـت عثمـان الشريعة بـعـده --ولأنـت فـي نصـر النبـوة حـيـدر
==========================
وكانت بنود الصلح التي تمت بين صلاح الدين والنصارى: «أن يسمح لهم بالخروج لمدة أربعين يومًا, يدفع الرجل منهم عشرة دنانير, والمرأة خمسة, والولد اثنين, ومن لم يستطع ذلك فهو أسير»
إلا أن السلطان صلاح الدين تجاوز بند المعاهدة وعامل الصليبيين معاملة عطف ورحمة وإحسان,فأعطى للنصارى العاجزين الذين تركهم أمراؤهم ولم يجدوا من يعينهم أعطاهم أموالاً ودواب لتحمل أثقالهم إلى ما يريدون.
وكانت إحدى نساء ملك من ملوك الروم قد ترهبت واستأذنت للذهاب إلى زوجها والمكث معه فإذن لها وسيرها إلى زوجها السجين للبقاء معه بقلعة نابلس واجتمعت مجموعة من النساء وتوسلن للسلطان في أزواجهن وأبنائهن, فرق لهن, وأمر بالإفراج عنهم, وفتح للعجزة والفقراء باب الخروج دون دفع جزية, وذكر كتاب الغرب من أمثال «ستيفن سن» «استانلي لين بول» الشيء الكثير في بر وإحسان صلاح الدين بالنصارى.
وأذن السلطان صلاح الدين لرجال الدين والناس كافة أن يحملوا معهم ما شاؤوا من المتاع والأموال, فأخذوا ما شاؤوا دون أن يعترضهم معترض, تاركين ما لا قبل لهم بحمله, فابتاعه المسلمون منهم.
وكان أحد البطارقة قد خرج بأمواله وذخائره, وكانت كثيرة جدًا لم يصرفها في فداء الفقراء والمساكين, فقيل للسلطان: «لم لا تصادر هذا فيما يحمل, وتستعمله فيما تُقَوّي به أمر المسلمين؟»
فقال صلاح الدين في أدب : «لا آخذ منه غير العشرة الدنانير, ولا أغدر به».
كل هذا علي النقيض التام مما عامل به الصليبيون المسلمين عندما انتزعوا القدس من أيدي العرب سنة 492هـ فإليك ما قاله «مل» المؤرخ الإنجليزي:
«كان المسلمون يُقتلون في الشوارع والبيوت, ولم يكن للقدسي من ملجأ يلجأ إليه من نتائج النصر, فقد فر بعض القوم من الذبح فألقى بنفسه من أعلى الأسوار, وانزوى البعض الآخر في القصور والأبراج وحتى في المساجد, غير أن هذا كله لم يخفهم عن أعين المسيحيين الذين كانوا يتبعونهم أينما ساروا
ولقد اندفع المشاة والفرسان وراء الهاربين, فلم يسمع في وسط هذا الجمع المكتظ إلا نزعات الموت وسكراته, ومشى أولئك المنتصرون فوق آكام من الجثث الهامدة وراء أولئك الذين يبحثون عن ملجأ أو مأوى».
,
قال الشاعر:
ملكنـا فكـان العـدل منـا سجـيـة --فلمـا ملكتـم سـال الــدم أبـطـح
وحللتـم قتـل الأســارى وطالـمـا --غدونا على الأسرى نمن ونصفح
فحسبـكـم هــذا التـفـاوت بينـنـا --وكــل إنــاء بـالـذي فـيـه يـنـضـح
المصادر :
- سير أعلام النبلاء
-البداية والنهاية
-أبو شامة في كتابه الروضتين
-مقالة للمؤرخ علي الصلابي